المقالات

في رحيل كريم مروة. أحد كبار الزمن الرومانسي اليساري\ كتب د. طلال الخوجة \ المصدر جريدة النهار

كريم مروة اسم رنان يطن في اذاننا منذ نعومة اظفار جيلنا اليسارية. وهو الجيل الذي هزته عاصفة هزيمة ١٩٦٧ المدوية امام الكيان الاسرائيلي، كما عاصفة التغيير في اوروبا بعد انتفاضة ١٩٦٨ في فرنسا. فقد انفلشت امام هذا الجيل كل الاسئلة الوطنية والقومية والعالمية و الثقافية والحزبية والثورية التي كانت تقلقه و تقلق الاجيال التي سبقته في مراحل النهضة وتشكل الكيانات و اسئلتها الفكرية والحضارية العميقة، بما فيها المفارقة الجدلية المستمرة والمتمثلة بالاعجاب بالحداثة الغربية، بما تحمل من تقدم علمي واجتماعي واقتصادي وحضاري لدرجة نقلها copy paste احيانا، ومواجهة هذا الغرب الكولونيالي المتغطرس والذي قمع بالقوة تارة وبالحيلة والنفاق تارة تجارب كيانية عربية ديمقراطية، كانت ستشكل في حال رعايتها و نجاحها قفزة نوعية كبيرة في مسيرة الحركة الحداثية التغييرية العربية التي تنكب لها كثيرون في لبنان والعالم العربي الواسع.
كريم مروة كان احد المنخرطين بقوة بمعمعة هذه الحركة التغييرية منذ نعومة اظافره. علما أن رعاية الغرب الكولونيالي الاوروبي و لاحقا الاميركي مع تأبيد روسي وسوفياتي لتأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين شكل حاجزا هائلا امام الحركة الحداثية. فقد زرع هذا الكيان الطائفي العنصري الموت و الدمار و أجج الخلافات في موضوع الهويات الدينية في المنطقة، كما عمق الانقسامات الفئوية، خصوصا في بلد التنوع الطائفي والمذهبي لبنان.
يرحل كريم مروة المفكر والمناضل اللبناني والعروبي و ابن جبل عامل الذي عشق قضية فلسطين، وهو يتألم لمشاهدة بعضا من مآثر هذا الكيان المجرم وداعميه في غزة المذبوحة وفي الضفة المنكل بها، وفي جنوبه الغالي، حيث أن المواجهات المدارة على قياس المصالح الخارجية الباردة قد تتدحرج نحو حرب حامية تدمر الجنوب و البلد المنهار و المسلوب الارادة والسيادة.
بداية تحول كريم مروة للعمل اليساري والشيوعي لا تخلو من الدلالة ومن الطرافة في آن، فقد تفتحت براعمه اليسارية ابان دراسته الدينية في النجف، كما حصل مع نسيبه شيخ المفكرين حسين مروة، والذي ستغتاله يد الغدر الظلامية في اواخر الثمانينيات في مرحلة تسييد السيطرة الايديولوجية الدينية على شرائح ومناطق ومذاهب وقضايا واسعة في البلد. اما المفارقة الطريفة ولكن ذات الدلالات الرمزية فتقول ان جنوبيين ذهبوا للدراسة الدينية في النجف في الخمسينيات فتحولوا الى الشيوعية كالمفكرين الراحلين و شماليين ذهبوا للدراسة الدينية في أزهر الاربعينيات فتحولوا للتمثيل كالممثل الراحل عبد السلام النابلسي. وحتى لا ينشأ اي التباس غير مقصود، نذكر ان طرابلسيين برزوا في المنفى الطوعي المصري كرواد نهوض فكري و اصلاح ديني في بدايات القرن العشرين كفرح انطون والشيخ رشيد رضا. وسيكتب لاحقا المفكر كريم مروة عن رواد النهضة والاصلاح الديني اللبنانيين في مصر .
لم تظهر الصورة النمطية لكريم مروة في الحزب الشيوعي اللبناني كمناضل حزبي ميداني بقدر ما برزت كمثقف ومنظر فكري، ما أكسبه لقب سوسلوف الحزب، حتى أن كتاباته في مجلة الطريق شكلت الى جانب كتابات مهدي عامل زخرا أساسيا من العدة الفكرية التي استخدمتها كوادر الحزب الشيوعي في مواجهة الكوادر الشبابية لليسار الجديد في منظمتي الاشتراكيين اللبنانيين ولبنان الاشتراكي المتحولتين في اول السبعينيات لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان برئاسة ابن الجنوب وسليل السياد محسن ابراهيم، علما ان كريم مروة لطالما اتهم اليسار الجديد باليسار المغامر. هكذا تحول الجدل الفكري العقائدي المتشاحن بين الكوادر الشيوعية الشبابية الى مناظرات بالواسطة بين مقالات كريم ورفاقه في الطريق ومقالات احمد بيضون و وضاح شرارة وفواز طرابلسي في مجلة الحرية، قبل ان يتراجع هذا الجدل العقائدي الماركسي، بعد ان جمع المعلم كمال جنبلاط التنظيمين الشيوعيين في لقاء الاحزاب المتحول الى الحركة الوطنية اللبنانية، حيث تصدر المشهد العمل السياسي والبرنامحي على حساب العمل الفكري والعقائدي، خصوصا مع السردية الثورية الجديدة التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية المسلحة في أعقاب هزيمة انظمة العسكريتاريا والاستبداد و وفاة الرمز العروبي جمال عبد الناصر.
المرة الاولى التي جمعتني بالراحل كريم مروة كانت ابان الاجتياح الاسرائيلي للبنان و حصار بيروت في صيف ١٩٨٢، حين استطاع بعض قيادات الحركة الوطنية الخروج من الحصار والانتشار في عواصم العالم لشرح ظروف الحصار الصعبة واستجلاب الضغط الدولي على اسرائيل. فقد تلقيت اتصالا من عضو في الحزب الشيوعي اللبناتي يعمل في السفارة اللبنانية في لندن، متمنيا علي ان أؤمن لكريم مروة لقاء سريعا مع أحد المسؤولين في حزب العمال المعارض آنذاك.
حصل اللقاء في اوتيل بندا حيث كان ينزل مروة مع رئيس اتحاد بلديات لندن GLC “الرفيق العمالي المناضل” كن لفنستون و الذي لم يخف تأثره وسعادته بلقاء “مقاوم” للاجتياح الاسرائيلي الوحشي من عيار مثقف، طارحا بضعة اسئلة على هذا المقاوم الانيق و الودود بعد ان استمع اليه باصغاء، و واعدا بمزيد من المواقف العمالية القوية والعملية المدينة للعدوان الاسرائيلي ولحصار عاصمة لبنان.
رغم صلابة المناضل كريم مروة وبقائه في قيادة الحزب فترة طويلة، الا انه من اوائل الذين خرجوا عن القالب النظري الكلاسيكي، خصوصا بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي، حيث ظهرت المرونة النظرية في كتاباته في قضايا لبنانية وفلسطينية وعربية ودولية وفكرية وثقافية متنوعة. وقد طالت كتاباته النقدية أزمة اليسار وروافده الفكرية، بما فيها ازمة الرافد الماركسي الاساسي والذخيرة الشيوعية. علما أن الراحل المبير بنى علاقات انفتاحية واسعة مع كتاب وناشطين نقديين ومحدثين فكريا وسياسيا وإجتماعيا في كثير من الدول العربية، حيث شكل بدينامية حراكه الثقافي و بازدواجية مرونته وصلابته، كما بغزارة وتنوع انتاجه، كتبا ومقالات، عامل تواصل بين الاجيال والاتجاهات والتيارات الفكرية والنضالية المختلفة، والتي ظهرت لاحقا في خلطة الربيع العربي.
والحقيقة ان الرفيق ابو أحمد كان قد اصبح منذ مطلع الالفية الثالثة “الشيوعي السابق” إذ خرج من المكتب السياسي و من الاطر الحزبية التي ظل الحزب الشيوعي الرسمي وما زال مأسورا بأدبياتها وينوء تحت اثقالها النظرية ومسمياتها التي غيرتها معظم أحزاب الكوكب. و يسجل لكريم مروة انه خرج من الحزب بهدوء ودون مواجهات واستقطابات، بعد ان كان قد خرج فكريا منذ سنوات، إذ كان منهمكا في متابعة الحفر في التربة الثقافية والفكرية والثورية، اللبنانية والعربية و العالمية، وفي تضاريسها المعقدة والمركبة في زوايا الأرض.
ومع انه كان لي حظ التواصل مع المفكر الراحل بعد انتفاضة ١٤ آذار الاستقلالية للاستزادة منه وللنقاش معه في بعض جوانب ازمة اليسار اللبناني والعربي في سياق أزمة العمل اليساري عموما، وفي مقاربة قضايا الربيع العربي المتعثر و المستمر فصولا وان بتقطع، الا أن انتفاضة الغضب التشرينية شكلت مفصلا في احياء وتمتين هذا التواصل، خصوصا حين شاهدت المناضل التسعيني يدبك مع المنتفضين الشباب في ساحات النبطية. اليس بديهيا بعد كل هذا، ان نتلقف بسرعة وشغف رغبة شيخ الشباب كريم مروة في زيارة المنتفضين الشماليين و التي نقلها لنا الصديق خالد زيادة.
كان اللقاء مع شيخ الشباب و الكاتب والمناضل الصلب الياس خوري، و مع الشاعر الجنوبي شوقي بزيع وبقية الوفد المرافق وديا و دافئا وحاشدا في ايقونة الانتفاضة الطرابلسية. فقد جذب هذا اللقاء نخبا متنوعة من الناشطين المخضرمين، كما جمع الكثير من شباب وصبايا خيم الاعتصام الذين تجاوبوا و حضروا و تحاوروا بصراحة مع مشايخ الحركة الثورية القادمين من الزمن الرومانسي. وفي الواقع فإن هؤلاء الشباب لمسوا التصميم والعناد والاصرار، كما التبصر عند هؤلاء المشايخ في مواجهة الطبقة السياسية الفاجرة والفاسدة والفاقدة للسيادة والوطنية بجناحيها الميليشيوي والمافيوزي.
هكذا بدد كريم مروة وبقية المشايخ، بمقارباتهم الهادئة و المنفتحة للقضايا والازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقلق الاجيال الشابة جانبا مهما من الصورة المشوشة والسلبية عموما التي كونها الشباب المنتفض عن اصحاب السوابق اليسارية والمشتغلين السابقين بالعمل السياسي الديمقراطي عموما.
لم يهدأ شيخ الشباب كريم مروة، اذ سرعان ما أحضر لنا من الانتفاضة السودانية المندلعة في نفس الوقت مستشار رئيس الحكومة السودانية المؤقتة د.محجوب ليشرح لنا تجربة التجمع المدني للتغيير في قيادة الانتفاضة السودانية في لقاء حاشد في ساحة الايقونة الطرابلسية، سرعان ما تحول الى حوار مفتوح بين الاجيال والتيارات والانتفاضات. وكم كان معبرا ان يتناغم الجميع شيبا وشبابا في نهاية اللقاء مع اغاني الشيخ امام والعود الرنان، خصوصا اغنية “شيد قصورك عالمزارع من كدنا وعرق جبينا” التي اصبحت لازمة لكثير من الشباب المنتفض، ما ذكرنا بمراحل ثورية كانت أغاني الشيخ إمام رفيقتنا الدائمة. والجدير ذكره ان الراحل الكبير لم يحبط حين تعثرت الانتفاضة التشرينية تحت القمع والتسلط، خصوصا من الثنائي المدجج، بل تابع نشاطه في المقاومة الثقافية عبر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وغيره من التجمعات التي عمل مع الياس خوري واخرين على تحفيزها، كما عبر طوفان الكتابة والاصدارات والمقابلات التي لم تهدأ الى ان دقت ساعة الرحيل.
يطوي رحيل كريم مروة صفحة مهمة من صفحات العمل الثقافي و الديمقراطي العابر للطوائف والمناطق و الحدود، و يلتحق بقامات يسارية كبيرة منبتها جنوبي كمحسن ابراهيم وحبيب صادق، و هو يغادرنا في مرحلة الخطر الشديد على الجنوب ولبنان وفلسطين وعموم المنطقة التي يعاد طرح الاسئلة الكبيرة فيها من خلال اعادة تحديد الادوار والاحجام والاوزان و التكتلات الجيوسياسية في مرحلة التحولات الكبرى في العالم و التي تطبعها الحروب والعسكرة و الصراعات والمنافسات الاقتصادية والثقافية والعلمية و الذكاء الاصطناعي والتي يدفعها بعا البعض نحو المجابهات الدينية و.صراع الحضارات. فوداعا ايها الكريم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى