فلسطين

حين يغيب الأب المجاهد: صرخة أم وزوجة وأبناء في وجه المشككين

في بيتٍ صغيرٍ من بيوت غزة، حيث يلتصق الأمل بالركام، ويبيت الشوق متلحفًا الخوف، تجلس أمٌّ عجوز، وامرأة شابة تحمل أعباء بيتٍ فارغٍ من الأب، وطفلان لا يعرفان معنى الطفولة إلا في ظلال الغياب. هناك، في ذلك الركن من الأرض الذي لا يعرف الهدنة، ينطق الصمت حوارًا يوجع القلب، ويُسكت الألسنة المتطاولة على شرف المقاتلين.

الطفل الأول، بصوت مكسور لا يعرف الزيف:
“أبي… نشتاقك كثيرًا. كل الأطفال يلعبون مع آبائهم… ينامون في أحضانهم، يذهبون معهم إلى السوق، يشترون لهم الحلوى والألعاب… لماذا أنت وحدك لست هنا؟”

شقيقه الصغير يهمس:
“أنت لست مثل الآباء الآخرين… أنت غائب دائمًا، وتغيب أكثر عندما نخاف.”

الزوجة، بوجهٍ أنهكه الانتظار والخوف:
“كل يوم نصحى على خبر… قصف هنا، عملية هناك… وكل مرة نحسبك أنت. حمل الحياة دونك ثقيل، والليل موحش، والمسؤوليات تنهش أعصابي. نحن لا نطلب شيئًا إلا أن تعود سالمًا… فقط نراك من بعيد، ثم تغيب.”

الأم، بصوت يرتجف تحت وطأة القهر والكرامة:
“يا ابني… ما في أمّ ما تتمنى تحتضن ابنها وقت التعب. لكن أنت لا وقت عندك للراحة. تذهب حين يبدأ الناس بالنوم، وتعود إن عدت، حين تصحو الشمس على أنقاض بيت أو شهيد. كل الأمهات تحتضن أبناءهنّ، وأنا أحتضن صورتك ودعائي.”

ثم يرتفع الصوت، لا ليبكي الفقد، بل ليواجه الوقاحة، ويصدّ الطعنات:

الزوجة تقولها بحرقة وصدق:
“ولمن يشككون في نواياك ونوايا المجاهدين…
أنتم تجلسون في بيوتكم آمنين، لا تشاركون، لا أنتم ولا أبناؤكم، في مقاومة، ولا تعرفون إلا أن تسلّوا ألسنتكم بالسوء…
بينما نحن نُقتل في اليوم ألف مرة، شوقًا وخوفًا وتحمّلًا.
أنتم لا تعرفون ماذا يعني أن تكوني زوجة مجاهد…
أن تستيقظي على صوت الطائرات، وأنت لا تدرين هل سيعود؟ هل لا يزال حيًّا؟”

الأم تصرخ بوجه هؤلاء:
“من لم يذق طعم الفقد لا يحق له الكلام!
ولدي ليس مجرمًا ولا متطرفًا…
ولدي ترك دنياه، وزوجته، وأبناءه، وراحة أمه…
لكي تدافعوا أنتم عن أنفسكم بالكلام، وهو يدافع عنكم بالدم!
عيب… والله عيب!
لسانكم لا يقل ألمأ عن صمتكم.”

الطفل الصغير، دون أن يدري عظمة ما نطق به، يهمس:
“بابا بيدافع عنّا… والناس تزعل منه؟”

هكذا، في لحظة إنسانية خالصة، تنطق غزة بالحقيقة:
أن من يُطعن اليوم هم أطهر من حمل السلاح بشرف، وغاب عن بيته مضطرًا لا هاربًا، وانسلخ عن رغد الدنيا لا رغبة فيها، بل طلبًا لكرامة شعب، ومستقبل وطن، وحماية عرضٍ تُهدده الوحوش كل يوم.

إلى أولئك الذين يسخرون من المجاهدين، ويطعنون في نواياهم، ويتلفظون بما لا يليق:
لا تحكموا على من ترك بيته ليحمي بيتكم.
ولا تفتوا في نوايا رجالٍ غسلوا أرواحهم بالتراب والدم، بينما أنتم تغسلون أيديكم من كل واجب وغيرة.

من غزة، من بيت أمّ وزوجة وأطفال مقاوم…
تخرج الرسالة:
“لسنا نطلب الشفقة، بل الاحترام. ولسنا نندب حظنا، بل نعتز بما نقدمه.
أنتم في بيوتكم بفضل من هم غائبون عن بيوتهم.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى