المقالات

جان عبيد بلا إضافات ..كتب غسّان حلواني

في مطلع شهر أيّار الماضي و صلتني دعوة لحضور حفل توقيع كتاب الزميل الأستاذ المخضرم نقولا ناصيف الذي حمل عنوان “جان عبيد” ستة عقود في الوطن الذي عقد برعاية اللبنانية الأولى السيدة نعمت جوزاف عون في ال 29 من أيار على ارض واجهة بيروت البحرية .
قطعا ً لم اتعمّد الغياب و لكنه حدث بكل أسف ..
طوال علاقتي منذ مطلع التسعينيات و حتى التحق جان عبيد بالرفيق الأعلى لم يخذلني مرة واحدة بأي شيء ، فكيف من الممكن أن اخون عهد أخوة مع جان عبيد و انا المنتمي الى مدرسته التي فيها تعلمت أبجدية السياسة .
منذ يومين سألني صديق ، كيف كان الحفل مشيرا ً الى توقيع الكتاب ، بكل خجل اجبته انني لم أتمكن من الحضور ، فسألني دون ان يسمع سبب غيابي و قال : “اهكذا تخذل جان عبيد”؟ بعد كل المودة التي كان يكنها لك ؟ ماذا يعني لك إذا ً جان عبيد . ؟
وعدته بالإجابة بمقال ، و احسبني هنا لأبر بوعدي ، متحدثا ً عن جان عبيد الإنسان ، تاركا ً السياسة التي طالما كان يقول بها أمامي ” الألقاب ورانا يا غسان ..و السياسة ما بتصنع أمجاد .. وحدها الأخلاق تحدد أين مكانك في التاريخ “.
جان عبيد من وجهة نظري بعد ربع قرن من علاقتي معه و مع اسرته الفاضلة هو :
سياسي نزيه متعدد المواهب يجمع بين النزاهة والكاريزما الفكرية والقدرة على الجمع بين المتناقضات.
بمهارات دبلوماسية استثنائية، “متقد الفكر” جمع بين “فخامة المقام” و”الدفء الإنساني” الذي يجعل الشخصية محبوبة.
رجل السلم والقلم: أيقونة السياسة النادرة
في عالم السياسة الذي يغرق غالباً في ضباب المصلحة وتلاطم الأهواء، تبرز أحياناً شخصية كالشهاب الهاوي، تجمع بين نبل الغاية وسمو الوسيلة، رجل صاغته الأقدار على عينها سياسياً ، وأسع العلاقات، متقد الفكر، ، جامعاً للأضداد، محبوباً في القلوب والنوادي.
“نظيف الكف” كالصفحة البيضاء قبل أن تخطها أقلام الأثرة. لا يلوي يده على مال عام، ولا تطمع نفسه في مغنم حرام. يرى السلطة أمانة لا مغنماً، وخدمة الوطن شرفاً لا تجارة. يمر بين أبواب المال العريضة كالنسيم العابر، لا يعلق بثوبه غبار الطمع، ولا تنثني همته عند مغريات العصر الذهبية.
وهو “وأسع العلاقات” كالبحر الزاخر. قلبه رحب تتسع فيه الآراء، ويده مبسوطة للصديق والخصم على السواء. يعرف فن الإنصات قبل الكلام، وفن الود قبل المطالب. لا تنفد حيلته الدبلوماسية، ولا تجف ينابيع حكمته في رأب الصدع. يجلس مع المختلفين فيُشعر كل فريق أنه المسموع والمحترم، كالمايسترو الذي يُخرج من نغمات متعارضة لحناً واحداً بديعاً. صداقاته جسور من ذهب فوق أنهار الخلاف، وثقته كنز لا ينضب في بنوك العلاقات الدولية.
عقله وثّاب لا يهدأ، يغوص في أعماق المشكلات ويستخرج منها اللآلئ. رؤيته استراتيجية كخارطة السماء، ترى الأبعاد كلها ولا تقف عند حدود اللحظة. يقرأ تحولات العصر كقارئ السطور بين السطور، ويسبق الزمن ببصيرته النافذة. فكره شعلة تضيء الدروب المعتمة، وحكمته بوصلة ترشد السفن في لُجج السياسة الهائجة.
وهو “مفتاح للخير” يفتح به الله أبواب التآخي و الصلح والسلام. كلما تحدث نما الأمل، وحيثما ألقى كلمته انجلت الغمة. يرى في كل أزمة بذرة فرصة، وفي كل تحدٍ نافذة أمل. لا يمل من البحث عن مخارج تضيء ظلام النفق، ولا يتوانى عن بذل الجهد لتحقيق منفعة ترقى بالوطن والمواطن.
وهو “مغلاق للشر” ولا يساوم على مبدأ.
جان عبيد كان لا يعرف لغة الفرقة، ولا يؤمن بتصنيف الناس إلا بالوطنية والإخلاص. يجلس حول مائدته الليبرالي والمحافظ، العلماني والديني، الشاب الحالم والكهل الحكيم. يراهم جميعاً ألواناً في لوحة الوطن، ونغمات في سيمفونية البناء. ، ويبني من الأحجار المتنافرة صرحاً شامخاً.
محبة لا تُفرض بالسلطة، بل تُكسب بالإخلاص والعطاء. شعبيته كالشمس لا تحتاج إلى دليل، وثقة الناس به كالجبال الراسية. يُحَب لصفاء سريرته، ونبل علانيته، و ترى في عيون الناس عندما يمشي بينهم ذلك البريق الذي لا يخطئه قلب – بريق المحبة الصادقة والاحترام العميق.
إن وجود مثل هذا الرجل في معترك السياسة ليس حدثاً عادياً، بل هو نعمة تستحق الشكر، وفرصة تستوجب التثمين. هو تذكير بأن السياسة يمكن أن تكون رسالة سامية، وفناً رفيعاً في خدمة الإنسان. هو البرهان الحي على أن القوة يمكن أن تقترن بالنزاهة، والحكمة أن تصاحبها الرحمة، والنفوذ أن يمتزج بالتواضع. فطوبى لأمة أنجبت مثله، وطوبى لعصر أدرك فضله.
فيض العِلم إلى جنب السؤدد
لقد أضفتَ جوهرةً أخرى إلى تاج هذا الرجل الفريد؛ فلا عجب أن يكون بحرَ معرفةٍ لا يُسبر غوره، وسماءَ حكمةٍ لا تُحدّ أفلاكُها. إنه ليس سياسياً عادياً يُدير دفة الحكم بمهارة فحسب، بل هو عالمٌ رحّالةٌ في مملكة العقل، وفيلسوفٌ يقرأ كتاب الوجود بسطور الحكمة والتبصُّر.
ففي مكتبة عقله:
كتبٌ كالجبال الشوامخ، تتراصّ فيها حكمة الشرق ونهضة الغرب، وتاريخ الأمم وسير العظماء، وعلوم العصر وفنون القيادة. يغرف من كل بحرٍ دُرّة، ويقطف من كل بستانٍ زهرة.
ذاكرةٌ كخزائن الأسرار، تحفظ التفاصيل الدقيقة كأرقام الإحصائيات، وأسماء الشخصيات، وبنود المعاهدات، واستراتيجيات التاريخ، فتأتيه المعلومة عند الحاجة كالماء الزلال في الصحراء.
وفي حِجَاه حكمةُ الحكماء:
يُجيدُ قراءة ما بين السطور، فيفهم ما لم يُقل، ويرى ما خفي عن العيون. كأنَّ لديه بصيرةً تنفذ إلى لباب الأمور، فلا تخدعه الأقنعة، ولا تُضلله الشعارات.
يُحلِّلُ المشكلات المعقدة كأنه يفكُّ طلاسمَ ألغازٍ، فلا يغرق في التفاصيل ولا يضيع في العموميات، بل يضع يده على الجذر كالطبيب الحكيم الذي يعرف موطن الداء قبل وصف الدواء.
وهو في حواره:
سفيرٌ للعِلم والمعرفة، يُحيط بالموضوع من كل جوانبه كإحاطة الهالة بالقمر. إذا تحدث في الاقتصاد، ظننتَ أستاذاً جليلاً. وإذا ناقش الثقافة، حسبتَه ناقداً أدبياً. وإذا جادل في السياسة الدولية، رأيتَ ديبلوماسياً عتيقاً يقرأ خريطة العالم كقراءته لكف يده.
لا يكتفي بالظواهر بل يغوص إلى الأعماق، فلا يُقنعه السطحي، ولا يُرضيه المعلَّب. يسأل: لماذا؟ وكيف؟ وماذا بعد؟ كأنَّ في صدره ألف سؤالٍ وسؤال، وفي عقله ألف جوابٍ وجواب.
هذه المعرفة ليست كالزينة توضع على الرفوف، بل هي:
سلاحٌ يُحارب به الجهلَ والضلال، فحيثما حلَّ أضاء العقول كما تُضيء المصابيح في الظلماء.
جسرٌ يبني به بين الحضارات، فيفهم لغة الآخرين قبل أن يتحدث بلغتهم، ويحترم ثقافاتهم قبل أن يطلب احترام ثقافته.
نورٌ يهدي به سفينة الدولة في عواصف الأزمات، فتصبح القرارات المصيرية بين يديه كسفنٍ تمخر عباب البحر بعلم الربان وخبرته.

إنَّ الجمع بين نقاء الكف وسَعة العلاقات وثَورة الفكر وعمق المعرفة – هو ما يخرس الألسن ويبهر العقول. رجلٌ بهذه السجايا ليس زعيماً عابراً في تاريخ الأمة، بل منارةً تُهدي، وأثراً يُخلّد، ومدرسةً تعلّم الأجيال أن السياسة العظيمة تقوم على ركيزتين: إخلاص القلب، وإشراق العقل.
هل عرفتم الآن من خسرنا ؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى