كي لا ننسى

صبرا وشاتيلا أو قصة المجزرة المعلنة – كتب :بيار بيان * Pierre PEAN

يتابع الجيش الاسرائيلي في الضفة وغزة سياسة الاستيطان وحصار المدن وتدمير المؤسسات المدنية ومطاردة المناضلين والاغتيالات المركزة. وقد اعترف للمرة الاولى انه يستخدم الدروع البشرية في عملياته وهي حريمة حرب بحسب المعاهدات الدولية. انها جلجلة طويلة لا تنتهي. اما مجزرة صبرا وشاتيلا التي وقعت قبل عشرين عاما في ايلول/سبتمبر 1982 والتي قتل فيها مئات المدنيين في مخيمات لبنان على يد الميليشيات اللبنانية اليمينية تحت نظر الجنود الاسرائيليين المتواطئين، فيعتبرها الفلسطينيون محطة اضافية في تاريخ من المجازر واعمال الاضطهاد من دير ياسين الى عملية السور الواقي مرورا بقبية. بالنسبة اليهم الماضي هو الحاضر.

بعد مضي عشرين عاماً على المجزرة، لا تزال الكلمات في الكتب التي أعيد فتحها (١)، كما الكلام الجاري على ألسنة الناجين ممن بقي من صبرا وشاتيلا، تقطر دماً. فالزمن لم يمحُ كل شيء. وطوال مدة إجرائي تحقيقي هذا كنت أشعر بالتقزز لهذه الروايات التي تنقل في تسلسلها أخبار الأولاد يُنحرون أو يُخوزقون، والنساء الحوامل تُشق بطونهن، والرؤوس والأطراف تُقطع بالفؤوس، الى الجثث المكدسة… حتى لتشعر بالغثيان.

لم أدخل الى ما تبقى من مخيمي صبرا وشاتيلا عبر المدخل الرئيسي، بل عبر حي موبوء في محيطهما، يعيش فيه الوافدون الجدد، وخصوصاً الآسيويين، وقد أفضى بي المرور في هذا الحي الى الشارع الرئيسي الذي يربط مستشفى غزة (لم يعد موجوداً الآن) بالمدخل الرئيسي من جهة السفارة الكويتية، المتناقضة معهما بفخامتها كما منشآت المدينة الرياضية المجددة القريبة منهما حيث جُمّع واستجوب الفلسطينيون واللبنانيون البالغون الذين كانوا نجوا من المجزرة. وفي الحي يختلط الناس ما بين الحوانيت وبسطات باعة الفواكه، والأقراص المدمجة (CD) والسلع الجديدة والمستعملة، وما بين السيارات والدراجات النارية الخفيفة.

فكيف أصل في هذا الجمع الى الشهود المباشرين أو غير المباشرين على المجازر والذين، من دون أن أسمع صوتهم، يحيون في ذاكرتي مشاهد الرعب في أواسط أيلول/سبتمبر من العام 1982؟

أم شوقي، البالغة من العمر 52 عاماً، فقدت سبعة عشر شخصاً من عائلتها بينهم زوجها وابن لها في الثانية عشرة. كانت تقطن في حي بئر حسن بالقرب من سفارة الكويت. وهي أقامت بعد المجزرة مع اولادها الاثني عشر المتبقين في الشارع الرئيسي لمخيم شاتيلا. وتسكن في الطابق الرابع من مبنى لم تراعَ فيه كثيراً أصول الهندسة المعمارية. بيتها من الداخل نظيف حيث باقات من الزهور الاصطناعية تتناسب مع ألوان الكنبات، ولوحات منسوخة ملصقة أو معلقة على الجدران، تمثل القدس والجامع الأقصى وراية حركة “حماس”، مع انها لا تنتمي اليها: “أنا لا أنتمي الى أي تنظيم. ولن ألتزم الا عندما تكون النتائج مضمونة. وعن اولادها تقول: “لا أريدهم ان يستشهدوا مجانياً، لكن يوم أتأكد من أنني سأروي تعطشي الى الثأر سأشجعهم وسأكون الى جانبهم…

في كل يوم وكل ليلة  تتراءى لها صور الجثث، والناس المشوهين، صورة ابنها وزوجها الذي لم تره بعد ذاك اليوم ولا تعرف عنه شيئاً. الألوان التي في الصالون لا تكسر من حدة سواد ثوبها وشعرها وعينيها. أم شوقي لا تبتسم وهي تتحرق من دون أن ترفع صوتها عندما تستعيد المأساة الثانية التي عاشتها عائلتها (الأولى كانت يوم تهجيرهم في العام 1948 من ترشيحا، وهي بلدة بالقرب من حيفا).

تروي: “سمعنا طرقاً على الباب، وصوتاً يقول: نحن لبنانيون، جئنا نقوم بعملية تفتيش عن السلاح… فتح زوجي الباب من دون أن يكون خائفاً على الإطلاق لأنه لم يكن ينتمي الى اي من التنظيمات المقاتلة. كان يعمل في نادي الغولف بالقرب من المطار”.

ثم تحدثت أم شوقي عن الجنود الاسرائيليين الثلاثة وعن عنصر من “القوات اللبنانية”، الميليشيا المسيحية اليمينية، الذين دخلوا المنزل واخذوا أساور ابنتها وانتزعوا الحلق من اذنيها ثم ضربوها.

هي متأكدة من ان هؤلاء الجنود قدموا من اسرائيل.

ـ  كان لباسهم العسكري مختلفاً عن لباس “القوات اللبنانية” ولم يتكلموا العربية. لا اعرف إن كانت اللغة التي تكلموا بها هي العبرية، لكني متأكدة من أنهم اسرائيليون.

وليس هذا امراً مستبعداً لأن منطقة بئر حسن، خارج محيط المخيم، كانت تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي. وكغيرها من العائلات الفلسطينية نقلت عائلة أم شوقي الى داخل المخيمين.

ـ  أصعدونا في شاحنة صغيرة سارت بنا نحو مدخل مخيم شاتيلا. قام هؤلاء العسكريون بفصل الرجال عن النساء وعن الاطفال. أحد اللبنانيين اخذ اوراق ثلاثة من أقاربنا قبل أن يقتلهم امامنا، اما زوجي وأبني وآخرون من أقربائي فقد أخذهم الاسرائيليون.

نقل النساء والأولاد سيراً على الأقدام الى المدينة الرياضية. وعلى حافة الطريق كان بعض النسوة يصرخن ويبكين مؤكدات أن جميع الرجال قد قتلوا… وفي المساء تمكنت ام شوقي، في جو البلبلة هذا، من ان تهرب مع أولادها الى شارع ثكنة الحلو، وعند انبلاج الفجر تركت أولادها في إحدى المدارس وذهبت سيراً في اتجاه المدينة الرياضية كي تستعلم عن مصير زوجها وابنها. فلم تستطع التحدث الى احد الضباط الاسرائيليين الموجودين هناك، لكنها سمعت أوامر بالعربية الى الرجال بأن يختموا بطاقات هوياتهم، ورأت شاحنة اسرائيلية تغص بالرجال البالغين والشباب. وقد ارشدتها امرأة غارقة في البكاء كانت فقدت عائلتها بأكملها الى المكان الذي رميت فيه الجثث. فاتجهت عندذاك المرأتان الى حي عرسال حيث ساروا فوق جثث قتلى لبنانيين وسوريين وفلسطينيين. وتقول أم شوقي إنها رأت المئات منها، وفي الحقيقة تبين أن اكثر الضحايا سقطوا في حي عرسال.  ـ لم يكن في الامكان التعرف عليهم. وجوه مشوهة، منتفخة… رأيت 28 جثة من عائلة لبنانية واحدة، بينها جثتان لامرأتين مبقورتي البطن… حاولت ان أتعرف الى ابني وزوجي من خلال ثيابهما، فتشت طول النهار، وعدت في اليوم التالي… فلم أتعرف الى اي جثة من اهل بئر حسن.

رأت ام شوقي جنوداً لبنانيين يفتحون حفراً ويدفعون الجثث اليها… ولم تجد زوجها واولادها من بعد. الموضوع الذي يصعب على أم شوقي الحديث عنه هو موضوع ابنتها التي أغتصبت…

ـ أفكر في هذا كله ليلاً ونهاراً. لقد ربيت أولادي بمفردي…وقد اضطررت الى الاستعطاء، ولن أنسى أبداً، وسأنتقم لكل ذلك. قلبي أسود مثل ثوبي هذا، وسأخبر أولادي، وأولاد اولادي، بما رأيت…

وبعدما تجولت في متاهة رهيبة في مختلف الأزقة حيث تتدلى الأسلاك الكهربائية في كل مكان وتسيل في الأرض مياه المجارير، وصلت أخيراً الى مركز مؤلف من ثلاثة او أربعة مكاتب. في احدها، في العمق، تجلس السيدة سهام بلقيس، رئيسة رابطة العودة، مستقيمة وراء مكتبها. وفي محيط الغرفة مسؤول فلسطيني واثنان من الناجين. والسيدة بلقيس، الأربعينية، هي مناضلة ملتزمة وصلبة. عائلتها أتت من قابا في منطقة عكا في اسرائيل. شرعت في الحديث فوراً.   

ـ  بدأت المجزرة مساء يوم الخميس  في حوالى الخامسة والنصف. لم نصدق في بداية الأمر… وقد بقينا داخل منزلنا حتى صباح السبت ولم نعرف كثيراً عما يجري الا ان مجموعة صغيرة من الفلسطينيين واللبنانيين حاولت يومي الخميس والجمعة أن تدافع عن نفسها، لكن ان إفرادها كانوا قليلي العدد وليس معهم ما يكفي من الذخيرة. وليلاً رأينا قنابل مضيئة وسمعنا إطلاق نار. اعتقدنا أن الاسرائيليين يريدون فقط مهاجمة المقاتلين والعثور على الأسلحة… وعندما عاد الهدوء تماماً صباح يوم السبت خرجنا الى الشرفة ورأينا مجموعة من “القوات اللبنانية” في صحبة ضابط اسرائيلي. صرخ فينا اللبنانيون طالبين الينا الخروج، فخرجنا وسط الشتائم. كان الاسرائيلي يحمل جهاز توكي ووكي فأخذه منه أحد اللبنانيين وتكلم فيه قائلاً: لقد وصلنا الى آخر المنطقة المستهدفة.

وهي متأكدة من أنه كان إسرائيلياً لأنه بحسب ما تقول كان ثمة على ثيابه شارة بالعبرية ولم يكن وجهه وجه عربي، وكان يتكلم مع اللبنانيين بالفرنسية.

اقتيدت السيدة سهام مع آخرين نحو مستشفى غزة، قام مرافقوهم بتجميع الأطباء الأجانب ومن التجأ عندهم في المستشفى ومحيطه.

ـ  قتلوا حوالى عشرة من المقاتلين، واكتشفوا شاباً فلسطينياً يرتدي قميصاً أبيض بين الأطباء والممرضين فقتلوه. وعندما اكتمل تجميع الناس ذهبنا بالمئات في اتجاه السفارة الكويتية. كانت الشوارع مليئة بالجثث، فتيات مقيدات من معاصمهن، ومنازل مدمرة، ودبابات هي على الأرجح اسرائيلية، وعلى حديد إحداها التصقت بقايا طفل. وقبل وصولنا الى المدينة الرياضية فُصل عنا الرجال، وراح بعض العسكريين يطلبون الى الشباب أن يزحفوا، فمن زحف جيداً اعتبر مقاتلاً وقتل على أيدي “القوات اللبنانية”، اما الآخرون فكانوا يُرفسون بالأرجل…

ـ  رأيت سعد حداد (٢) مع آخرين امام مبنى السفارة الكويتية. ثم لدى وصولنا الى المدينة الرياضية شاهدت عدداً كبيراً من الجنود الاسرائيليين. قال كولونيل اسرائيلي ان في امكان النساء والأولاد أن يعودوا الى منازلهم، وفي ما بعد رأيت أخي يصعد الى سيارة جيب فيما صعد الآخرون الى الشاحنات، ركضت نحوه، لكن عبثاً، سمعت ضابطاً يقول بالعربية: “سنسلمكم الى “القوات اللبنانية”، فهم يعرفون أكثر منا كيف يجعلونكم تتكلمون.

وفي الاجمال فإن الشهود جميعاً يروون الأخبار نفسها، والرعب نفسه. وقد التقيت أيضاً السيدة كاملة مهنا، وهي لبنانية من حي عرسال:

ـ كل الذين بقوا في حيّنا قتلوا، وهم في غالبيتهم من اللبنانيين. وعندما عدت الى المكان كان هناك كومة من الجثث المتكدسة. بالقرب من منزلي كان هناك فلسطيني متدلٍّ على تعليقة الجزار وقد شطر نصفين مثل الذبيحة. ورأيت كيف وُضعت في الحفرة الكبيرة طبقة أولى من الجثث وتم تغطيتها بالرمل لتوضع فوقها طبقة أخرى من الجثث. وهكذا دواليك… وقد رأيت أيضاً لبنانياً آخر من حي عرسال، حمد شمص، وهو أحد الناجين القلائل من المجزرة في هذا الحي. لقد اختبأ في الملجأ لدى وصول ضابطين اسرائيليين في سيارة جيب مع 7 أو 8 جنود.

ـ  أنا متأكدة من أن هؤلاء الجنود هم اسرائيليون لأنهم كانوا في بدلات عسكرية اسرائيلية ولا يتكلمون العربية بطلاقة. طلب الينا الجنود الخروج من الملجأ وهم يشتموننا، وطلبوا اليّ أن انزل الطفل الذي كنت احمله على ذراعيّ وان أقف في الصف مع الآخرين. وقام أحدهم، وهو يتكلم العربية جيداً بتفتيش الجميع وأخذ الأموال من الرجال، ثم راحوا يطلقون النار علينا. وجدت نفسي مصابة بجروح فقط في رأسي ومؤخرتي تحت كومة من الجثث. سقط 23 قتيلاً …اختبأت في أحد الملاجئ طول الليل. وعند الفجر عبقت رائحة الجثث في كل مكان.

ما من جديد في كل هذه الشهادات، فهي تتوافق مع ما جمعته من شهادات ليلى شهيد، الممثلة العامة لفلسطين في فرنسا، التي كانت من أوائل الذين زاروا المخيمين بعد المجزرة، وحدها او مع جان جينه. وهي، باستثناء ما تخونه الذاكرة، متطابقة أيضاً مع شهادات عناصر الفريق الطبي في مستشفى غزة من الانكليز والنروجيين والأسوجين والفنلنديين والألمان والايرلنديين والأميركيين، ومع الشهادات التي سجلها العديد من الصحافيين إثر المجزرة.

يروي الياس خوري، الكاتب اللبناني المعروف (٣) بالكثير من التأثر المعركة المستحيلة للذاكرة بالنسبة الى الشعب الفلسطيني بشكل عام وبالنسبة الى مجازر صبرا وشاتيلا بنوع خاص.

ـ لم يعد قانون الذاكرة يعمل لدى الفلسطينيين بسبب المجازر المستمرة: دير ياسين وقبية (٤) وصبرا وشاتيلا، واليوم جنين. يستحيل عليهم النظر الى الماضي لأن هذا الماضي لا يزال مستمراً حالياً. فهم منذ العام 1948 يعيشون في خضم آلية جهنمية… الفلسطينيون هم ضحايا استغلال الحكومة الاسرائيلية لقضية المذبحة اليهودية”. إن المعايير الأخلاقية تسقط عند الحدود الاسرائيلية، وفي هذا السياق تصبح فكرة مأساة صبرا وشاتيلا هامشية…

أضف الى أن هذه القضية هي من المحرّمات في لبنان، فالمتهم الرئيسي فيها، إيلي حبيقة (٥) أصبح وزيراً في الحكومة… ويتابع الياس خوري:

ـ بعد الحرب تولى المجرمون السلطة، أضف الى أن الفلسطينيين صاروا كبش المحرقة لحرب لبنان وهم يخضعون في هذا البلد لقوانين أين منها قوانين حكومة فيشي إزاء اليهود.

ـ حتى الأرقام في ما يتعلق بالضحايا والمفقودين يلفها الغموض منذ عشرين عاماً، وهي تراوح بحسب التقديرات بين 500 الى 5000 قتيل. الا أن المؤرخة بيان الحوت حاولت على مدى عشرين عاماً أن تسد هذه الثغرة. فهذه الباحثة اللبنانية المولودة في القدس حيث عاشت حتى التاسعة من عمرها، والاستاذة في جامعة بيروت قامت بعمل دؤوب في أوساط عائلات الضحايا والمفقودين وحللت مئات استمارات الاسئلة وقابلت بين لوائح المنظمات الانسانية والصليب الأحمر وحاولت ان تعثر على جميع المقابر… حتى باتت اليوم متأكدة من الأرقام: لقد سقط 906 قتلى من 12 جنسية نصفهم من الفلسطينيين… وفقد 484 منهم 100 من المؤكد أنهم خطفوا. أي ما يعادل 1490 ضحية تمّ تحديدها.

هذه المجازر والاختفاءات جاءت في سياق الحرب التي شنتها الحكومة الاسرائيلية في 6 حزيران/يونيو عام 1982 من أجل القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. وقد كلف اجتياح لبنان يومذاك سقوط أكثر من 12000 قتيل مدني و30000 جريح وتشريد 200000 شخص.

وفي أواسط حزيران/يونيو بدأ الاسرائيليون حصارهم على بيروت مطوّقين 15000 مقاتل من منظمة التحرير وحلفائها اللبنانيين والسوريين. وفي اوائل تموز/يوليو أوفد الرئيس الأميركي رونالد ريغن السيد فيليب حبيب ومساعده السيد موريس درايبر لحل هذه الأزمة التي كادت أن تشعل الوضع في الشرق الأوسط، مهددةً المصالح الأميركية. وسرعان ما تبين أن حل الأزمة يجب ان يمر بترحيل المقاتلين الفلسطينيين والسيد ياسر عرفات من بيروت، وقد اقتنع عرفات على الأثر بأنه ليس هناك حل آخر.   

وقد تعقدت الأمور لأن الاسرائيليين والأميركيين لم يرغبوا في التفاوض مباشرة مع الفلسطينيين (٦)، فقام بدور الوسيط كل من الياس سركيس رئيس الجمهورية اللبنانية الماروني، ورئيس وزرائه السني شفيق الوزان. ذاك ان الاسرائيليين أرادوا مواصلة الضغط العسكري الوحشي وفرض الاستسلام التام والمذل على السيد عرفات.   

وقد قدم عرفات الكثير من العروض للحصول على ضمانات للعائلات الفلسطينية التي ستبقى في لبنان، إذ خشي عليهم من اعتداءات الجنود الاسرائيليين أو حلفائهم الكتائب، وقد رأى السيد عرفات أن هذه الضمانات لا يمكن أن تكون الا أميركية أو دولية.  

وتوصل السيد حبيب الى الحصول على تأكيدات من رئيس الوزراء الاسرائيلي بأن جنوده لن يدخلوا المنطقة الغربية من بيروت وبأنهم لن يعتدوا على فلسطينيي المخيمات، وعلى تأكيد من الرئيس اللبناني العتيد بشير الجميل بأن الكتائبيين لن يتحركوا، وعلى تأكيد من البنتاغون بأن رجال المارينز سيكونون الضمان الأخير لهذه التعهدات. وإذ تسلح بهذه الوعود، تعهد ممثل الرئيس ريغن خطياً بالحفاظ على امن المدنيين، في رسالتين موجهتين الى رئيس الوزراء اللبناني. وهذا التعهد الأميركي سيرد في البند الرابع من اتفاق ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية الذي نشرته الأمم المتحدة في 20 آب/أغسطس، اي عشية ترحيل المجموعات الأولى من المقاتلين الفلسطينيين (٧).

الا ان السيد عرفات أبدى قلقاً متزايداً على مصير المدنيين الفلسطينيين. فقام السيد حبيب (٨) بخطوة أخرى مع بشير الجميل الذي أكد مجدداً وعوده. وشدد حبيب على دور القوة المتعددة الجنسية المؤلفة من 800 فرنسي و500 إيطالي و800 أميركي. وقد وصلت القوة الأولى، الفرنسية، في 21 آب/أغسطس وتكفلت عملية الاخلاء وجمع السلاح. وكان من المفترض ان تستمر مهمة هذه القوة ثلاثين يوماً لتمنع أي مخالفة وتحمي العائلات الفلسطينية، وهكذا اقتنع السيد عرفات في النهاية بمغادرة بيروت…   

الا ان احداً لم يحترم تعهداته، بدءاً بالحكومة الأميركية. فقد أصدر السيد غاسبار واينبرغر، وزير الدفاع الأميركي، اوامره الى المارينز بمغادرة لبنان، في حين أن الميليشيات المسيحية تمركزت في 3 أيلول/سبتمبر في منطقة بئر حسن على تخوم مخيمي صبرا وشاتيلا. وقد استتبع رحيل الأميركيين تلقائياً رحيل الفرنسيين والايطاليين. وفي 10 أيلول/سبتمبر غادر بيروت آخر جندي، في حين أن مشروع السيد حبيب قام في الأساس على أن تتم عملية الاخلاء ما بين 21 و26 ايلول/سبتمبر. في 14 أيلول/سبتمبر، اغتيل بشير الجميل، الرئيس اللبناني الجديد الذي أوصله الاسرائيليون الى سدة الرئاسة. فتذرع أرييل شارون بهذا الحدث كي يجتاح بيروت الغربية ويطوّق مخيمي صبرا وشاتيلا ويشجع الميليشيات اللبنانية على تنظيفها.   

يومذاك جرى تحقيق رسمي واحد، هو تحقيق اللجنة الاسرائيلية الذي تولاه اسحق كاهان، رئيس المحكمة العليا، والذي نشر في شباط/فبراير عام 1983 وقد حمّلت اللجنة حزب الكتائب المسؤولية وفي درجة اقل السيد أرييل شارون. تحدث التقرير أولاً عن خطأ فادح ارتكبه شارون الذي لم يتخذ أي إجراء لمراقبة المجزرة ومنعها”. وقد بدا مرتبكاً بالنسبة الى موقف السيد شارون الذي لم يبلّغ بيغن بالقرار الذي اتخذه بالسماح للكتائبيين بدخول المخيمات. وفي النهاية يعترف بمسؤوليته لأنه لم يأمر بأن تتخذ الاجراءات الملائمة لمنع حدوث المجازر المحتملة”. فالسيد شارون يتحمل مسؤولية شخصية وعليه (تالياً) ان يتحمل التبعات في شكل شخصي”.

وقد نشرت الصحف الاسرائيلية، وخصوصاً في العام 1994، العديد من المقالات التي أكدت هذه الاستنتاجات وتوسعت فيها. وهكذا أكد عامير أورن في صحيفة “دافار” الصادرة في الأول من تموز/يوليو عام 1994، واستناداً الى وثائق رسمية أن المجازر كانت جزءاً من خطة وضعها السيد أرييل شارون وبشير الجميل اللذين استخدما المخابرات السرية الاسرائيلية التي كان يقودها آنذاك أبراهام شالوم الذي تلقى الأوامر بإبادة جميع الارهابيين. مما يعني ان عناصر الميليشيات اللبنانية لم يكونوا سوى عملاء  في التسلسل القيادي الذي يقود، عبر أجهزة المخابرات، الى السلطات الاسرائيلية.   

كما ان برنامج بانوراما الذي بثته محطة بي.بي.سي. في 17 حزيران/يونيو عام 2001 تحت عنوان المتهم قد توسعت في المعلومات وخصوصاً بفضل شهادات من الصعب إنكارها، جاءت على لسان السيد موريس درايبر، مساعد السيد حبيب. فعندما أُتي على ذكر تأكيدات السيد شارون أنه لم يكن في امكانه توقع ما وقع في المخيمات، اكتفى درايبر بتعليق بسيط: “عبثية مطلقة”. ثم تحدث عن اجتماعه بشارون و يارون، رئيس أركانه، في وزارة الدفاع في تل أبيب، يوم الخميس بعدما كان الاسرائيليون قد دخلوا بيروت الغربية بالرغم من الوعد الذي قطعوه. وقد برر يارون هذا القرار برغبته في منع الكتائبيين من الانتقام من الفلسطينيين بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل. وقد لاذت مجموعتنا المؤلفة من حوالى عشرين شخصاً بالصمت، كانت لحظة مأسوية. وإذ أكد أن الولايات المتحدة رفضت الاقتراح الاسرائيلي بنشر قوات الكتائب في بيروت الغربية لأننا كنا نعرف أن هذا الأمر سيتسبب بمجزرة إذا دخل هؤلاء القوم أضاف: “ما من أدنى شك في أن شارون هو المسؤول عن المجازر والأمر نفسه كان سيحدث لو أن اسرائيليين آخرين شاركوا في تحمل هذه المسؤولية.

ولم يسأل الديبلوماسي الأميركي عن مسؤولية الأميركيين ولا عن مسؤولية إيطاليا وفرنسا اللتين سحبتا جنودهما بعد رحيل المارينز…

وبعد مضي عشرين عاماً يحق لعائلات الضحايا والمفقودين في مخيمي صبرا وشاتيلا معرفة الحقيقة، وذلك كي يتمكنوا في النهاية من إقامة مأتمهم. وهذا لا يعني سوى العائلات. لكن يحق للجميع أن يعرف لماذا وكيف ومن نظّم ونفّذ اعمالاً على هذا المستوى من الوحشية.

——————————————————————————–

* كاتب، من مؤلفاته:

Dernieres volontes, derniers combats, dernieres souffrances, Plon 20002, Manipulations africaines, Plon, 2001.  

1. من كتاب:

Amnon Kapeliouk, Le Seuil, 1982 ; Israël de la terreur au massacre d?Etat, d?Ilan      Halevi, Papyrus, 1984 ; Genet à Chatila, Babel,199X, Opération Boule de neige, de Shimon Shiffer, J.C.Lattès., 19XX, Revue d?Etudes palestiniennes, n?6 et 8.

2. قائد “جيش لبنان الجنوبي”، وكان يتعامل مع الاسرائيليين.

3. راجع في نوع خاص:

Les Portes du Soleil, publié par Le Monde diplomatique et Actes Sud,

يستعرض خمسين عاماً من المأساة الفلسطينية، وقد لاقت مسرحيته مذكرات أيوب”  Les mémoires de Job  نجاحاً كبيراً في باريس.   

4. ديرياسين قرية صغيرة واقعة على بعد حوالى عشرة كيلومترات من القدس، حيث قتل ما يزيد على 100 قروي في ربيع العام 1948 ، وفي قبية في الضفة الغربية وخلال عملية انتقامية في تشرين الأول/أكتوبر عام 1953، قادها أرييل شارون، فجر الجيش الاسرائيلي 45 منزلاً فوق رؤوس سكانها. وقد قضى تحت الأنقاض تسعة وستون شخصاً نصفهم من النساء والأولاد.

5. يعتبر إيلي حبيقة الجزار الأول في صبرا وشاتيلا، وقد اغتيل في 24 كانون الثاني/يناير عام 2002 في بيروت، فيما كان يستعد للحضور الى بروكسيل للإدلاء بشهادة. وبحسب المحامي اللبناني شبلي الملاط، الذي يتولى قضية أصحاب الدعوى، لم تكن اعترافات حبيقة هي التي ستشكل خطراً على السيد شارون بل مجرد حضوره الى بروكسيل. فلو انه مثل امام المحكمة وحمل حكماً المسؤولية، لما طرحت صلاحية المحكمة على بساط البحث.

6. مع أن المفاوضات المباشرة، لكن السرية، كانت جارية منذ سنوات في بيروت، بين المسؤولين الفلسطينيين والسفارة الأميركية كما مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية. ففي العام 1979 مثلاً، نجح السيد عرفات في تحرير 13 رهينة اميركية في طهران.

7. وردت في:

American Foreign Policy 1982 (Current Documants) :  …Law abiding Palestinian non-combatants left behind in Beirut, including families of those who have departed, will be subject to Lebanese laws and regulations. The Governments of Lebanon and the United States will provide appropriate guarantees of safety in the following ways…The United States will provide its guarantees on the basis of assurances received Lebanese groups with which it has been in touch.  

8. حول المفاوضات التي قادها السيد حبيب راجع:

Cursed is the Peacemaker de John Boykin

الذي قدم له جورج شولتز، وزير الخارجية آنذاك

Applegate Press, Washington(2002) et The Multinational Force in Beirut 1982-1984, sous la direction d?Anthony McDermott et Kjell Skjelsbaek, Florida International University, Miami (1991

المصدر :العالم الديبلوماسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى