المقابلات

حوار مع الشاعرة “روز كلش” – حاورتها: هدى بيّاسي

ما أكتبه هو وليد الأنا الدفينة بكلّ انتصاراتها وكبواتها لم يكن ولعي بالشعر مستحدثاً، فقد عرفته مذ نبتت الكلمة في رأسي وظلت ألاحقه حتى ظننت أنّ أغلبه انكشف عليّ. متأخرة أدركت أنّ الشعر أنثى لا تهب نفسها إلا بمزاجها وأنّ الشاعر لا يملك لغته قط، هي التي تملكه. فالشعر مهما جاهدتَ في تفسيره، جزء منه يبقى متمنّعاً عليك كأنّما ليترك لك غواية الانبهار به كلّما اقتربت من لمسه. هكذا عرفتُ الشعر عندما قرأت ديوانها الأوّل ” وأهزّ أفيون دمي”  تجربة عميقة بالحياة تخرج به الكلمة عن مدارها المتّفق عليه، لتصنع فضاءها بنفسها ولتخلق نوعاً من ابتهال لا  ينحني الا ليحلّق. انها روز كلش التي أصرّت أن تختبر الشعر انجذاباً. وكان لي معها هذه الدردشة.
في زمن أصبح فيه القابض على الشعر كالقابض على الجمر. كيف تجرّأت على نشر كتابك وأنت تعرفين أنّ قراء الشعر قليلون وأنّ كتب الشعر هي الأقلّ رواجا؟
لا تشبه كتب الشعر في علاقتها مع مؤلّفها الكتب الأخرى. لأنّ الشعر حين ينفلت من قمقمه ويخرج إلى العلن فذلك يعني انكشاف الذات، ذات الشاعر ولاوعيه الدفين للآخر، مع ما يتبع ذلك الانكشاف من إشراك للقارىء في سبر دهاليز الأنا وربما الأنا العليا، تحت مظلّة التجاذبات والتناقضات والاسقاطات.
هذا الكتاب كان بالفعل بمثابة جمرة قبضتُ عليها لسنوات طويلة، إذ أنّه يتضمن قصائد كُتبت منذ ما ينيف عن عشر سنوات، إلى أن طالبتني تلك الجمرة بالتنفس عبر قضبان قبضتي التي ضيقَتْ عليها الخناق طوال تلك الفترة. فقررت التخلي عن خوفي وخجلي الحذِر لأشرك القراء على ندرتهم في هواجسي المستطيرة بين دفّتي كتاب، ليس رغبة مني في الوصول إلى عدد كبير منهم، إذ أنني على وعي تام بأنّ الشعر قد أصبح توأم العتمة اللصيق. فأنا عندما تجرّأت على نشر كتابي كنت أراهن على قلب واحد يحبّه ويحتويه كي يعيش.
ثمّة دلالات في قصائدك لا تنكشف للرائي. بل علينا أن نغوص في عمق الوجع لفهمك. كم نزفت هنا؟
أعتقد أن ما كتبته كان دائماً وليد ألمٍ ما وأن الفرح نادراً ما كان محرّك اليد الخفية التي تمسك بالدواة في داخلي وتدلق الحبر على عواهنه. ولا يخفى على القارىء مهما جاءت قراءته لما أكتب، والذي لا أسميه بالضرورة شعراً، سطحية.. لا يخفى عليه الحقل المعجمي الوافر والصارخ للألم والنزف والتشظّي. وإن كانت تلك المصطلحات لا تنبع بالضرورة من تجارب مأساوية بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أنها تبقى لصيقة بمأساة الوجود العبثي والبحث المضني عن الآخر، ذلك البحث الذي لا يرتوي بمجرد العثور على صورة من صور ذلك الآخر بل يظل منداحاً في المسافات التي تقطعها الذات في كل الاتجاهات تقصيّاً لصور أخرى تدمي الأنا بقدر ما تدلّلها وترفعها، صور لا تنضب مادام قلب الشاعر/الرائي ينبض.  
متى يبزغ الضجر من بين أصابع روز كلش؟
سؤالك يحيلني إلى كتاباتي التي كثيراً ما يرد فيها ذكر الأصابع…فاليدان هما الأداة التي تصلنا بما حولنا حتى وإن فقدنا الحواس الأخرى، الأصابع هي التي نستنفرها متى أردنا تلمّس طريقنا في العتمة، ونستلهمها متى أردنا استشعار الآخر، أي أنّها ذاكرة تختزن وتستحضر أشكالاً وأحاسيس لا تُدرَك بغيرها. نادراً ما يستولي الضجر على أصابعي بقرار منّي، فهي حين تعزف عمّا حولها، ذلك أنّ ما حولها لا يؤرقها بما يكفي، ولا يستثير فضولها بالقدر الذي يشحذ طاقتها على البحث في الظلام عن لمسة تجعل القلب ينهزم أمام ورقة.
كلنا_ كتّاباً وشعراء_ ندّعي أنّنا نملك وحيا لنشتّت القراء عن ذكر أسماء من نحبّ. على أيّ وحيّ تعتمدين؟
ليست أسماء من نحب هي الوحي الحقيقي الذي نعمل على تشتيت ذهن القارىء عنه. وخير دليل على ذلك أنّ الشعراء الذين اعتلوا عرش التاريخ اقترنت أسماؤهم بأسماء من أحبّوا. لكنني أودّ الإشارة هنا أننا لا نكتب بالضرورة لنحتفي بمن نحبّ أو لنتحرّر من أوجاع الحبّ، فالكتابة الإبداعية غالباً ما تكون همّاً وجودياً يطال كلّ ما يتصل بتفاعل الذات مع ما يحيط بها، وبما أنّ من نحبّ يشكلون امتداداً لذاتنا، يصبح من العسير علينا سلخهم عن أزمة وجودنا أو عن احتفائنا بهذا الوجود. لا وحي أسعى إلى تضليل القارىء عنه، فما أكتب هو وليد الأنا الدفينة بكل انتصاراتها وكبواتها، بكل تبعثراتها حبّاً وبغضاً، حرباً وسلماً، لذة وحرماناً.
كلّ الكتب تحمل رسالة.. ما هي رسالة روز كلش؟
لا أعتقد أن كتابي يحمل رسالة بقدر ما يحمل أمنية: أن ينجح الإبداع في جعلنا نتخطى كلّ بشاعة قد ترتطم بإنسانيتنا فتدميها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى