المقابلات

سيف على صيف – د. قصي الحسين

كل المؤشرات تدل على أن لبنان قادم على صيف، يحل عليه السيف، كما قال رشيد الضعيف ذات يوم. إنها معركة رئاسة الجمهورية نفسها. تطل كالحرب برأسها من جديد. حزم “المرشح الأوحد” أمره. علق سيفه في صدر الصالة. يتصل ويستقبل ويتشاور ويتداول. يستدعي السفراء. ويستقبلهم ويودعهم. يشاورهم في الأمر. ويبسط لهم القول أنه مستعد لسماع رأيهم. فيدخلون ويخرجون، ولا يرون إلا سيفا معلقا في صالة الإستقبال، فوق كرسيه، تمهيدا للمناقشة في الأمر.
حزم “المرشح الفرد” أمره باكرا. فلا مجال عنده لإضاعة الوقت. ولا هم يشغله غير هذا الهم.
حرك منصاته كلها في هذا الإتجاه. عينه لا تهدأ، وبؤبؤ عينه لا يستقر.
نزل مبكرا إلى الساح، وقاد معركة العزل. يصوب على كل من يقف في وجهه. نثر كنانته وصوب سهامه على كل من يشتبه به معارضا مشاكسا مرجئا، لا فرق.
على الجميع الإنحناء، وخفض الرؤوس، ورفع الأيدي وإدارة الوجه إلى الحائط. والإستسلام براية بيضاء، وإلا طالته السهام.
دخل إلى حجر الوزارات. تجول بحرية في دار الحكومة. كأنه سيد القصر الثالث. يركب الملفات للخصوم، وينادي على أصحابها. يقود معركة العزل.
ينام ويستيقظ على وسادة واحدة: معركة الرئاسة. وبين يديه، وفضة الحراب ومنصة الحرب.
قبض على عنق لبنان بيديه. إما الرئاسة أو الخنق.
“أعمى رئاسة” ولو بالعزل. ولو بالإغتصاب ولو بالحرب. نادى على لبنان بالذبح.
سوف لن يبقى مال. سوف لن تبقى بنوك. سوف لن تبقى سوق. سوف لن يبقى إقتصاد. سوف لن يبقى رغيف. سوف لن يبقى رجال. سوف لن يبقى هواء . سوف لن يبقى ماء. سوف لن يبقى صيف.
رجل في القصر، ورجل في القبر. يهز لبنان من أركانه. يهز ميثاقه. ويهز دستوره. ويهز قضاءه. ويهز عملته. ويهز أمنه. ويهز عسكره.
يهز كل تعهد وكل إتفاق وكل عقد ، وكل إبرام. وكل صداقة، وكل شيمة وكل إحترام.
يحرق أوراقه قدام عينيه. ويحرق مركبه بين الأمم. يحرق لواءه ويحرق شراعه، ويحرق شرعته.
نادى على لبنان: لا مدارس بعد اليوم. لا جامعات بعد اليوم. لا حياة بعد اليوم. فإما القصر، دون العالمين، أو القبر.
رجل في الشرعة. ورجل في الشارع. يقود المعركة. يسابق الريح. يقدح الشرر تحت رجليه. يعلنها حربا حتى الجنون. ويشعل النار في الدارات.
يجر لبنان من ذقنه. يكبه للتو. يثور يدور يحور، ينبش الخزائن. يحرق الدفاتر. يحرق المراحل، ويصيح على لبنان من جديد: إما القصر وإما القبر.
عيونه تقدح شررا. يطير الغضب من وجهه: رعد وزمجرة وتهويل. ولعاب يسيل على كعكة العصر والقصر.
الناس بعض من بعوض. وبعض يموت. أغلق على لبنان بالظلام. سد أبوابه والنوافذ. أسدل على شمسه، بأردية سود. خبأ تحتها الخنجر المسموم. ونادى على الساحات والشوارع: نزل القتيل إلى القتيل. أشعل الفتن:
ثارت المدينة على المدينة. ثارت العاصمة على العاصمة. ثارت الضواحي على الضواحي. ثار الشعب على الشعب، وحل السيف على الصيف.
يا للثارات ويا للتارت. يا للجراحات. يا للأموات. عاد لنبش القبور من جديد.
عاد حفارا للقبور، “إبن بجدتها”. ينادي من فوق المنصات على العزل، أو النزال للساحات.
يقول بأعلى صوته:
نعم ياحنين، هكذا حل فينا
إشتياق يشد إشتياقا دفينا
لبنان ربما يعلق على خشبة من جديد. لكنه، عهدا قطعه على نفسه، وقد حل السيف على الصيف: لا يعطيه قصرا، بل يخبئ له بعد ثلاث سنين، “خفي حنين.”

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى