المقالات

دوريّة الانتخابات.. وثقافة الديمقراطية
فيصل طالب (*) المصدر: موقع الجريدة

في موسم الانتخابات، تكثر الشعارات الطنّانة والوعود الرنّانة، وتشتعل الخطب السياسيّة على منابر المرشّحين، مستخدمة شتّى أنواع الأسلحة الكلامية الهجومية، المشروعة منها وغير المشروعة، غير آبهة بما تترك من تداعيات سلبية على هذا الاستحقاق الديمقراطي، شكلاً ومضموناً من جهة، وعلى منظومة العلاقات بين الناس التي يُفترض أن تتفاعل دائماً تحت سقف الوئام الاجتماعي والوطني.

إنّ التعريف بمشاريع البرامج السياسية، وإطلاق الرؤى التطويرية لمسار الحياة الوطنية في البلاد، أمران مشروعان، بل مطلوبان، وذلك في إطار الحملات الانتخابية للأحزاب والقوى والائتلافات السياسية المنضوية في إطار القوائم الانتخابية التي يفرضها القانون أساساً لعملية الانتخاب. لكن ما ليس مشروعاً البتة أن يجري استخدام الشحن من أيّ نوع كان، أو التحريض السياسي، أو نكء الجراح، أو استعادة صفحات من الخلافات التى مضى عليها الزمن، لاستنهاض الشارع الانتخابي و”شدّ العصب”، في الطريق إلى محاولة استمالة الناخبين بكل الطرق المتاحة، ولو كان ذلك على حساب نصاعة الممارسة الديمقراطية والصالح العام.

إنّ الديمقراطية، في أبسط مبادئها، تقوم على التعددية السياسية والاعتراف بالآخر، بحيث يكون الاقتراع الحرّ الوسيلة الوحيدة لتحديد الخيارات السياسية للمجتمع، في فضاء التسابق الشريف للخدمة العامة، من دون المساس بالرأي الآخر أوتسفيهه وتحقيره، بل بمقارعته ومناظرته ومجابهته بالحجّة والدليل والبرهان، وإظهار مواطن الضعف والخلل فيه، وتقديم البديل منه مسنداً بقرائن الإثبات والإقناع؛ الأمر الذي يُثري الحياة العامة بفضائل تلاقح الأفكار واغتنائها المتبادل؛ فإمَّا أن تتلاقى أو تفترق، من دون أن يشكّل الاختلاف في وجهات النظر خلافاً يضرّ بمسيرة نهوض الوطن وعملية بنائه وحمايته.

إنّ الاقتناع بأن الصراع السياسي الديمقراطي المنزّه عن كل التشويهات التي يمكن أن تلحق به، من جرّاء التحايل على الممارسة الديمقراطية، بما لا يتفق ومفهومها وثقافتها وآلياتها، هو الطريق الصحيح لمشروع بناء الدولة على أسس متينة تكفل تفكيك الأنماط والبنيات الفكرية والسياسية والاجتماعية المعيقة لعملية النهوض العام، وترعى حركة التحوّلات المجتمعية باتجاه الحداثة السياسية القائمة على الاغتناء من توسّع دائرة الحوار بين مختلف الآراء السياسية، على قاعدة التقاطع الأخلاقي ـ السياسي في التوجّهات والممارسات الوطنية.

إنّ تمثّل هذه المفاهيم في الممارسة العملية للصراع السياسي، ضمن الأطر الديمقراطية التي تضبط إيقاعاته في الاستحقاقات الوطنية وفاقاً لمندرجات المصلحة العامة، هو عمليّة تثقيف دائمة ذات مقاصد اجتماعية وسياسية ووطنية، أي مجموعة القيم التي تستهدف بناء سلوك ديمقراطي للفرد، في نطاق نشر ثقافة عامة تعنى بالتنوّع في إطار الوحدة الوطنية، وتكرّس مبادئ الحوار والتسامح، وترسّخ سيادة القانون، وتفرض المساواة في الفرص للمواطنين، وتعمل على تربية الوعي السياسي بأهميّة تداول السلطة، بعيداً من ثقافة الاعتماد على الطائفة والعائلة ومراكز النفوذ، والاستقواء بها لتحصيل الخدمة والمنفعة.

ولا ريب أنّ الطريق إلى جعل المسار الديمقراطي في المجتمع منهجاً حياتياً وخياراً استراتيجياً لا يمكن أن تكون ممهّدة، إِلَّا من خلال العمل على تأسيس علاقات ديمقراطية داخل الأسرة والمدرسة والجامعة وأماكن العمل، على قاعدة أن مقاربة التمثّل الديمقراطي في حياتنا اليومية يجب أن تبدأ بالإنسان أوّلاً، أي داخل بنيته التربوية والثقافية والعملية، قبل أن ننتظر من المؤسسات السياسية والسياسيين على حدّ سواء حسن التطبيق ورفعة الأداء في مختلف الأمور المتعلّقة بممارسة المواطنين لحقوقهم المدنية، والسياسية منها على وجه التحديد.

إنّ الانتخابات النيابية، بحكم أنّها الاستحقاق الديمقراطي الأهم في الحياة العامة، هي فرصة حقيقية لتجديد الحياة السياسية وتطويرها، إذا توافر لها شرطان أساسيان: قانون انتخابي يضمن صحّة التمثيل الشعبي على قاعدة النسبية، وما يرتبط بها من منافسة قائمة على البرامج والخطط والمشاريع المعلنة للقوى السياسية من جهة، ومن جهة ثانية على أساس الممارسة الصحيحة والسليمة لمندرجات العملية الانتخابية المبنية على الارتفاع المضطرد لمنسوب الوعي العام، بفعل سياسة تربوية ثقافية عملانية تهدف إلى تمكين المواطنين من اكتساب الكفايات المدنيّة الأساسية، في إطار مشروع حقيقي لترسيخ ثقافة المواطنة والممارسة الديمقراطية، وما تتضمّنه من آليات التواصل والتفاعل الإيجابي بين المكوّنات الاجتماعية والسياسية، في نطاق الرؤية التي تهدف إلى إرساء بنية ثقافية ناهضة لا تعيد إنتاج الثقافة السائدة، بجوانبها المعيقة لحركة التطوّر والتجديد.

إنّ الفعل السياسي المتداخل والمتفاعل مع المعطيات الموضوعيّة القائمة، لا يمكن له إذاً أن ينتج وضعيات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة؛ اللَّهُمَّ إِلَّا إذا شرعنا في النظر إلى التربية ببعدها الثقافي، وباعتبارها منظومة متكاملة من المعارف والقدرات والمهارات والقيم والمواقف وأنماط السلوك التي يتمّ تمثّلها في سياق الحراك المجتمعي، برؤى التطوير والتغيير، لا برواسب النهج الاجتماعي والثقافي السائد وشروطه؛ الأمر الذي يؤذن ببداية الطريق إلى بناء ثقافة الحياة المتجدِّدة والقابلة للتحديث بفعل دورتها وسيرورتها الطبيعيتين، لا برجاء من هنا، وتمنيات من هناك!

(*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى