إجتماعيات

في وداع القاضي الرئيس طارق زيادة:علَماً ثقافياً في لبنان والعالم العربي

بغياب طارق زيادة، القاضي والمفكّر، تخسر الثقافة في لبنان، الحقوقية منها على وجه الخصوص، قامة فريدة في رؤاها الإنسانية والوطنية "آخذاً نفسه، كما قال، بالجدّية والصرامة في مجمل شؤونه، متلبّساً الحكمة والرويّة". ابن طرابلس الفيحاء كان في السابعة من عمره عندما نالت الجمهورية اللبنانية استقلالَها "بعد تنكُّرٍ للكيان والانتماء الى لبنان، كما روى، حسمتْ طرابلس أمرَها وأظهرت مشيئتَها في الأيام المجيدة من تشرين الثاني من عام 1943؛ إذ شهدتُ بنفسي المدينةَ تَخرجُ عن بكرة أبيها محتفيةً بولادة الاستقلال. ذلك زمن مجيد، ربطَ طرابلسَ بلبنان عبر الاستقلال والحرّية، ودون أن تتخلّى المدينةُ عن عروبةٍ حضاريةٍ طبعت الكيانَ الوطني".
جيلُه جيلُ الاستقلال. وسيرتُه الشخصيّة ملازمةٌ لمسيرة الجمهوريّةِ المستقلَّةَ حديثاً، وفي مختلف منعرجاتها. فبعدَ أن أنهى مرحلتَه المدرسيةَ في مدينته عام 1956، انتقل للالتحاق بمعهد الحقوق الفرنسي في جامعة القديس يوسف في بيروت ونال الإجازةَ الجامعية عام 1960، وبالموازاة وفي السنة عينها نال إجازةً من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية؛ فمارس المحاماةَ سنتين 1960 – 1962، قبل أن يدخل معهدَ الدروس القضائية بتفوُّقٍ في مباراة الدخول، عام 1962، وتبدأ مسيرته في سلك القضاء في مناصب عدّة استمرَّت خمسةً وثلاثين عاماً.
ولكنَّ ميلَه للبحث والكتابة والتأليف وإلقاء المحاضرات والدروس جعلَه يتجه إلى أن ينال شهادة في القانون العام (1973)، وأخرى في القانون الخاص (عام 1974) من الجامعة اللبنانية، وتبدأ بعدها مسيرتُه الأكاديميةُ كأستاذٍ محاضرٍ بدأَها في كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف في طرابلس عام 1977: وباللغتين العربية (محاضرات في القانون الدستوري اللبناني)، وبالفرنسية (محاضرات في أصول المحاكمات)، وبقي فيها حتى العام 1982.
عُيّن رئيسَ محكمة في بيروت من 1984 الى 1997؛ وبالموازاة أستاذَ القانون الدولي في جامعة الروح القدس – الكسليك، في جبيل... 
أما مؤلَّفاته: من دراساتٍ ومقالاتٍ ومحاضراتٍ وكتب، في الجرائد والمجلات الفكرية والقانونية، فهي بالعشرات. إلاّ أنَّ اللافتَ منها كان في مجال الحقوق، فقد عُني بخاصةٍ بالمجال الدستوري اللبناني، واهتمَّ بالصيغة اللبنانية التي يقوم عليها نظامُ الحكم في لبنان، وحول معنى لبنان، وحول مدينةِ القدس ومقارنتِها بوضع دولة الفاتيكان؛ وكتبَ "صفحات من الحرب الأهلية الاسبانية" (للإضاءةِ على حرب لبنان). ومحاضرات وندوات في انطلياس (عن ذكرى الاستقلال السنوية)، وفي صيدا، وتعنايل، وطرابلس، وجبيل، وبولونيا (إيطاليا)، وزغرب (كرواتيا) عن الحوار المسيحي – الإسلامي والتجربة اللبنانية، وسويسرا (عن الصيغة اللبنانية)... كما تزاملْنا معاً في "المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم" وندواتها المختلفة في بيروت وفي قبرص (مدينة أيانابا، في ديرها الأثري)، كما حاضر حول "أبعاد الحوار المسيحي – الإسلامي" أمام اللقاء الأول لبطاركة الشرق الكاثوليك، في بكفيا (عام 1992)، وحول "حوارات الشباب" في انطلياس...
مسيرةٌ غنيةٌ للراحل، متنوعةُ العناوين والميادين، تشي بالكثير من التزامه بالقضايا العامة، خارجَ نطاق الوظيفة الإدارية الرسمية، والأكاديمية...
سنةُ 1999 اختارتها منظمة اليونسكو الدولية سنةَ "بيروت عاصمة للثقافة العربية". في معرض الكتاب السنوي الذي تنظِّمه سنوياً "الحركة الثقافية – انطلياس" وتكرّمُ فيه أعلاماً في الثقافة من لبنان والعالم العربي، في هذه السنة جرى تكريمُ طارق زيادة مع كوكبةٍ من الأَعلام ضمَّت: محمود أمين العالِم (مصر)، ناصر الدين الأسد (الأردن)، الأب المؤرِّخ جوزف حجّار (سورية)؛ ومن لبنان: أحمد حاطوم (لغوي)، وفيليب سالم (طبيب)، ونور سلمان (شاعرة)، ومنير أبو دبس (مسرحيّ)... قدّمَ المحتفى به القاضي طارق زيادة، بكلمةٍ جامعةٍ لافتةٍ في كشفها عن مزايا المكرَّم، الرئيسُ الأديبُ الدكتور غالب غانم، يوم العاشر من آذار 1999.
والمميّزُ في هذا الاحتفال كان الكلمةَ التي ألقاها المحتفى به التي ضمَّنَها سيرتَه الذاتيةَ كما لم يروِها علَناً وبصراحةٍ لافتةٍ من قبل، مع تطوُّره الفكريّ الذي كان يتزامنُ مع ثراء خبرتِه الحياتية الخاصة ومسؤولياته الإدارية العامة، وفيها كلامٌ في التاريخ الشخصي منذ الحداثة والصبا إلى مرحلة النضوج، في إطار تاريخ الجمهورية اللبنانية المستقلة، في شريط يمتدُّ ثلاثةَ أرباع القرن، بازدهارها ورخائها وانتكاساتها، بحلوها ومُرِّها، بسلامها وحروبها؛ وكلامٌ في هذه الكلمة على "أُقنومَي الحرّية والعدل"، والحكمةِ والرؤيةِ في القضاء، وربطٌ بين الحرية والفكر النقدي في لبنان والعالم العربي، "للخروج من مستنقع التخلُّف"، ويتساءل بمرارة: "أين هي النهضة الحقّة؟ ويعترف، وبصيغة الاتهام الضمنيّ كما في التقاليد القضائية العريقة، أنَّ "بوسع القاضي أن يكون مستقلاً إذا أراد، بصرف النظر عمّا إذا كانت السلطةُ القضائيةُ مستقلةً فعلاً أم لا"!...
طارق زيادة الذي غادرَنا عن أربعة وثمانين عاماً، الحادُّ البصيرة على هدوء، الجِدّيُّ الصارمُ المتّزنُ الأنيقُ مظهراً ولغةً ومسلكاً، المهذَّبُ على رصانةٍ في التمسك بالقيم والقواعد الأخلاقية بمعناها الواسع، اللبنانيُّ الاستقلاليُّ والعروبيُّ، ما أوصلَه، كما قال، إلى "اعتدالٍ لبنانيٍّ وعربيّ وانفتاحٍ حضاريّ ونزوعٍ إنسانيُ واعترافٍ بالآخر وإقرارٍ بحقّه في الاختلاف، ومحبّةٍ روحيةٍ حتى بتُّ أُردِّدُ مع ابن عربيّ: "أُدين بِدينِ الحبِّ أَنّى توجَّهتْ ركائبُه، فالحبُّ ديني وإيماني". هذا الانسان النموذج، في الوطنية والانسانية، الذي يُقتدَى به، غيابُه لا يُعوَّض. 
                                الحركة الثقافية – انطلياس 
                                      أمانة الاعلام 
                                     د. أنطوان سيف 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى