فلسطين

تزييف الحقائق.. أولى خطوات تخريب الأوطان

كريمة الروبي

أكاديمية فلسطينية

القاهرة

■ تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بكمٍ هائلٍ من المعلومات، بعضها صحيح والجزء الأكبر منها مزيف، ولا شك في أن تزييف المعلومة لا يحدث بصورةٍ عفويةٍ بل لتحقيق هدفٍ من وراء هذا التزييف.

أتاحت برامج الفوتوشوب والجرافيكس إمكانية التلاعب في الصور والفيديوهات، ما جعل فبركة المعلومات والأخبار أمراً في متناول الكثيرين، وانتشرت الشائعات بصورة كبيرة شهدناها جميعاً خلال أحداث ما أطلق عليه “الربيع العربي”، وبدلاً من أن يؤدي انتشار مواقع التواصل الاجتماعي إلى تبادل المعارف وتعزيزها، أدت إلى تخلي الأفراد عن البحث وراء المعلومة والقراءة المتأنية، وأصبحت المعلومات متاحة أمامهم كوجبة (تيك أواي)، في منشور أو (تغريدة)، ما ساعد على انتشار فوضى المعلومات السريعة التي لا تعبر إلى العقل لتحليلها واتخاذ مواقف سليمة بناءً عليها، بل تقود إلى مواقف مبنية على العواطف (كالكراهية والحب) لا العقل، وما أخطر أن يحكم الفرد على الأمور وفقاً لأهوائه وانفعالاته النفسية، وحين ينسحب الأمر على القضايا العامة يتحول إلى كارثة نعيش آثارها وما نزال نعاني منها، وكيف تم استغلال تلك الحالة في تجنيد الآلاف من شباب الأمة لتدمير أوطانهم وقتل أشقائهم، بدلاً من تجنيدهم للتخلص من عدوهم الذي يدير المشهد وهو آمن مطمئن بأن جيلاً قد تم تزييف وعيه، لن يكون بوسعه تمييز عدوه من صديقه.

تتمثل خطورة فوضى المعلومات كونها تأتي في إطار عملية ممنهجة لتشويه التاريخ والرموز الوطنية التي ناضلت من أجل استقلال أوطانها، وكانت شوكة في حلق المستعمر، وذلك بهدف تنشئة أجيال جديدة لا تنتمي لأوطانها، وتقبل بالخضوع والاستسلام للأمر الواقع، وترفض كل حركات الاستقلال والتحرر ورموزها، التي يتم وصفها بالقيادات المهزومة، وادعاء أن كل من ناضل ضد المستعمر كان مصيره الهزيمة، وأن السعي لاستقلال الأوطان مصيره الحتمي هو خراب الأوطان.

حين ينشأ جيل يحمل مثل هذه الأفكار الانهزامية، فإن هذا يعني أن الأمة قد تعرضت للهزيمة من الداخل ما يؤهلها للخضوع وعدم القدرة على مواجهة العدو الخارجي.

إن محاولة مواجهة المعلومة المزيفة بأخرى صحيحة لا يعني بالضرورة اقتناع هؤلاء الأفراد الذين تعرضوا للتزيف بها، فالمعلومات التي يتعرضون لها كثيرة ولها مصادر أيضاً، حتى وإن كانت تلك المصادر غير أمينة أو مجرد مذكرات لأشخاص ليسوا محل ثقة، فتبني الأشخاص لوجهة نظرٍ بعينها لا يعتمد على نوعية المعلومات المقدمة لهم فحسب بل هناك عدة عوامل أخرى تتحكم في الأمر، منها:

1- التكوين النفسي والأخلاقي والقيمي للفرد، أو ما يمكن أن نطلق عليه الفروق الفردية بين الأفراد، فمهما تعرض إنسان هو في أصل تكوينه إنسان متخاذل وجبان مثلاً لمعلومات وآراء تدعم قيم الكرامة وعزة النفس، فلن يقتنع بها أو يتبناها.

2- الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، فالناس ينقسمون لفئات اجتماعية، كل فئة لها سلوكياتها وأنماط تفكيرها، وتتشابه الاستجابة للمعلومات داخل كل مجموعة، وبالتالي يتأثر الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها.

كما تشير نظريات الاتصال إلى وجود عمليات انتقائية يقوم بها الإنسان بصورة لا إرادية لتدعيم وجهة النظر التي يتبناها وفقاً لتكوينه النفسي أو فئته الاجتماعية التي ينتمي إليها أو المعلومات المزيفة التي تعرض لها منذ البداية، وتتمثل في ثلاث عمليات:

1- التعرض الانتقائي: أي أن الفرد يختار – من دون وعي – المادة أو المعلومة أو الرسالة التي يتعرض إليها من بين كل هذا الكم الهائل من المعلومات والرسائل المتاحة أمامه فهو يختار من بينها ما يؤيد وجهة نظره.

2- الإدراك الانتقائي: أي أن الفرد حين يتعرض لعدد من الرسائل والمعلومات المختلفة فإن عقله يدرك ويفسر تلك المعلومات بالصورة التي تؤيد وجهة نظره.

3- التذكر الانتقائي: وهذا يعني أن الفرد يقوم – لا إرادياً – باختيار المعلومات التي يخزنها في ذاكرته ويستدعيها متى أراد.

تلك العوامل النفسية والانتقائية تفسر بصورة كبيرة لماذا لا يتأثر الجمهور بالمعلومات والآراء المقدمة له أو حتى يحاول البحث في مدى صحتها لاتخاذ قرار تبنيها من عدمه، في الوقت الذي تبنى فيه عدد كبير من هذا الجمهور لمواقف مبنية على معلومات وحقائق غير منطقية على الإطلاق.

هذا لا يعني التخاذل في توضيح المعلومات الصحيحة لمواجهة الزيف الذي يتعرض له جيل بأكمله بصورة غير مسبوقة، فكما أن هناك نفوساً دنيئة تقبل إهانة أوطانها ولا تعرف معنى الكرامة والشرف، فإن هناك أيضاً نفوساً عزيزةً ولكنها محاطة بسيل من المعلومات المزيفة، وتحتاج لانتشالها من وسط كل هذا الكم من التزييف وتوضيح الحقائق لها لتبنيها، ودور النخبة هنا هو توصيل تلك المعلومات إليهم وجذبهم لمعسكر الحق في مواجهة الباطل.

المعركة باتت معركة وعي، ومعركة حسٍ عام، وفي مثل تلك المعركة فإن النخبة القومية المقاوِمة، على عاتقها أن تسعى لمواجهة صد الأكاذيب والتضليل من جهة، وأن تسعى لرفع سوية الجمهور المستهدف بتلك الأكاذيب والأضاليل، أي جمهورنا، من جهة أخرى. ولا بد على هذا الصعيد من أن تقوم العناصر الطليعية، الأكثر وعياً والتزاماً بالأهداف القومية والموقف الوطني، والأكثر استعداداً لكي تبذل وقتها وجهدها في العمل في قضايا تتجاوز الذات الفردية، من أن تطّور مهاراتها وكفاءاتها في معركة الإعلام والثقافة بما يتجاوز اكتساب المعرفة بحد ذاتها إلى:

1 – دراسة أساليب العدو، ونقاط قوتها وضعفها، والسعي لتطوير استراتيجيات للرد عليها،

2 – إيصال الفكرة والمعلومة بطريقة أكثر ملائمة لوتيرة عصرنا السريعة وبأدوات أكثر جاذبية للمتابعين،

3 – الاستمرار ببناء مشروع الوعي والثقافة النوعي والمعمق، وهو ما لا يتحقق عبر “الوجبات السريعة” على وسائل التواصل، فالحقيقة تبقى أن الأساس هو الوعي الفكري ذو الطابع المنهجي والمتماسك، ومن دون هذا، نقع فريسةً للضحالة التي يشكل الترويج لها أحد أهم نقاط برنامج التفكيك الذي يتعرض له شبابنا على مستوى عقلي وفكري، لا على مستوى سياسي واجتماعي فحسب.■

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى