المقالات

أولياء أمرنا… ولاة ديمقراطية الخنوع\المصدر: النهار \د. سابا قيصر زريق

من اتكل على زاد غيره، طال جوعه
(مثل عربي قديم)

إن رب العالمين هو الولي الأول. وبعد، ففي ولاية الأمر في هذه الدنيا يعهد قانون أو قرار قضائي إلى شخص بالغ تدبير أمور قاصرٍ أو فاقدٍ للأهلية، فيقيمه وصياً عليه، ويكلفه الاهتمام بشؤونه، مع ما يرتب ذلك على الولي من موجب الرعاية والإعانة والعناية. ولما كان من المفترض أن يكون الولي متمتعاً بحكمة وخبرة ودراية وحسن نية وأخلاق لتنفيذ هذه المهمة، عليه بالطبع ألا يتصرف على أي نحو يضر بمصلحة المولى عليه فحسب، بل القيام بكل ما بالإمكان القيام به لصون وتعزيز هذه المصلحة. ومن جهته، على المولى عليه الأقل خبرة وحكمة، أن يمتثل لقرارات وأوامر الولي، مقيداً بواجب الطاعة والإذعان.

إن مجرد اقتباس مفهوم ولاية الأمر في الميدان السياسي، حيث يعين الشعب (وليس القاضي أو القانون) بالانتخاب أولياء أمره، ويزودهم بوكالة، أشبه بتلك غير القابلة للعزل، لمدة أربع سنوات، وربما لمدة أطول في حال تم التمديد للمجلس النيابي، وهي عادة سيئة دأب نوابنا على اتباعها. وبالتالي، يوافق الشعب القاصر المغلوب على أمره بمحض إرادته على تحمل وزر اختياره الخاطئ، دون أن يكون له الحق بالاعتراض على تصرفات أوليائه الجائزة، غير ممارسة بعض الحقوق الدستورية الديمقراطية، أثبتت مؤخراً أنها تكاد تكون عقيمة، كحق التظاهر والاعتصام الخ… فلكل مجموعة ولي أمر ولكل حزب ولي أمر ولكل مذهب ولي أمر وحتى لأصحاب الرأي الحر “المستقلين” مبدئياً أولياء أمر، يؤثرون على أتباعهم ومريديهم.

وفي بلاد الأرز، تتخذ هذه الولاية طابعاً مميزاً، إذ إنه، وعلى الرغم من أن برلماننا يضم 128 نائباً عن الشعب، فالحقيقة أن هذا العدد مختصر بالأولياء الحقيقيين وعدد أبرزهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. فطاولة الحوار، غير الدستورية، لا تتسع لعدد أكبر!! وما يزيد الطين بلة هو أن هؤلاء لا يتحكمون فقط بالمجلس النيابي فحسب بل، ونتيجة عدم الاستقلالية الواقعية لأي من السلطات الدستورية الثلاث عن الأخرى، فإن أولئك القلة هم كذلك أولياء أمر الحكومة، يعود أعضاؤها إليهم في كل شاردة وأدنى واردة. فإن تأمن توافق رؤساء الكتل، عاش البلد؛ وإن تعسر توافقهم، حشرج، كما هي حالنا اليوم.

درج #أولياء أمرنا على مر السنين على استنباط الوسائل الناجعة لكي يمددوا ولاياتهم تأبيداً لغيّهم ولسلالتهم. وأنجع سبيل لذلك تمثل في إفقار الشعب، لكي يستمر في استعطاء أولياء أمره، فاستحال هؤلاء ولاة بكل ما للكلمة من معنى. فهم يسخون في تغذية المواطنين لشل أية محاولة لخروجهم عن بيت طاعتهم. أما مصادر أموالهم فهي متنوعة. فمن لم يكن منهم أصلاً ميسوراً بحلال، مد يده إلى خزينة الشعب، أو حول إيراداتها لمصلحة ناخبيه، أو استعطى الخارج لمده بالمال اللازم، بعد إيهامه بقدرات هو لا يتمتع بها، إلى أن تبين لذلك الخارج زيف ما وعد به فأمسك. أما المال السياسي البغيض فيصرف بأشكال شتى : نقداً أم عيناً وتحت ستار عناوين مختلفة، ليس “التكافل والتضامن” أقلها شأناً، أم تدخلاً لتوظيف الناخبين أو نقلهم من وظيفة إلى أخرى. وإن ننسى فلا ننسى الضغوط السافرة على قضاة إنعدمت ذمتهم، لترجيح كفة ميزان حليف ظالم على كفة ميزان آخر مظلوم، أو إخلاء سبيل مرتكب؛ إلى ما هنالك من “منافع” يشتري بها الولي السياسي ضمير وطاعة وانصياع وخنوع ناخبيه. أما نتيجة كل ذلك فهي ما نشهده اليوم من وضع مأزوم لا يحتاج إلى توصيف، فهو معاش لحظة فلحظة من قبل اللبنانيين أجمعين.

وها هم وكلاؤنا يتعسفون في استعمال وكالاتهم الشعبية، فيسيؤون الى مااأئتمنوا عليه من حاضر ومستقبل المواطنين والوطن. ولإساءة ائتمانهم هذه عقوبة مشددة، كونهم خانوا الثقة التي أولاهم إياها ناخبوهم، فاختلسوا أموالهم وعاثوا في دنياهم فساداً ما بعده من فساد.

إن أجل ولاية المجلس الحالي يدنو، وموعد الانتخابات الفرعية، هذا إن جرت، يقترب أكثر. فلنترجم سخطنا واستهجاننا وانتفاضتنا في صناديق الاقتراع، بدلاً من الإفساح في المجال أمام المندسّين المحّرِضين ممن يضمرون الشر لبلدنا المنكوب لتشويه انتفاضة 17 تشرين الشريفة والصادقة. ما كانت الديمقراطية المزيفة التي كانت تجري الانتخابات العامة على أساسها إلا لذر الرماد في العيون ولإيهام العالم بأنها انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة، وهي ربما لم تكن يوماً كذلك.
فلنرذل الإغراءات المادية التي تحول دون التغيير الحقيقي بأصوات شريفة تسقط في الصناديق، مسقطة حقبة طويلة سوداء، ولا نبيع ضمائرنا في سوق نخاسة المزايدات النجسة. فإننا إن لم نفعل نكون لا محال كمن نوّلي علينا، ولن يحق لنا الاعتراض أو الانتفاض بعد الآن. ولنسلم أمرنا إلى أولياء شرفاء وأكفاء يعيدون إعمار ما هدمه أسلافهم ويسهمون في بناء دولة تحكمها العدالة، عدالة القانون السائد على الجميع؛ في جو يسمح لنا أن نمارس ديمقراطيتنا ورأسنا مرفوع، فإن كان التوافق مأمولاً، يبقى الاختلاف مشروعاً. أما التقاتل، فهو بغيض.

وأملي الوحيد ألا يقابل القارئ هذه الصرخة بردة فعل اعتدنا عليها ألا وهي “على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى