ثقافة

“الوظيفة الاجتماعي للتربية”

بقلم:الدكتور أمل مبروك عبد الحليم

ينفرد الإنسان من بين سائر الكائنات الحية بقدرته على التكيف وفقًا لمعايير وقيم ثقافية أبدعها لنفسه، وتعكس “القيم” أهدافه واهتماماته الذاتية، كما تعكس حاجات النظام الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه. وإذا ما حاولنا أن نفرق بين عالم الإنسان وسائر العالم في كلمة واحدة، فلن نجد سوى القيم؛ فالإنسان لا يواجه العالم بوصفه موضوعًا مستقلاً محايدًا، بل العالم القائم هو عالم بالنسبة إليه، لا يتصل به إلا من جهة ما يعنيه منه، ولا يعرف منه إلا ما يُترجم إلى لغته. وما يغزوه من العالم مزود بالثقافة، بل إن الثقافة هي الوجه الإنساني من العالم. وتُصاغ ثقافة الإنسان من مجموع جوانب فاعليته على نحو ما يتضح من فلسفته ودينه وفنه وعلمه، ومن قبل ذلك، في لغته وأساطيره وسحره؛ فهي القيم والمثل السائدة في المجتمع.
إذن، فالثقافة هي اختراع إنساني تفرد به دون غيره من الكائنات الحية، ومن أجل المحافظة على هذه الثقافة وإغنائها ترتب على الإنسان أن يحقق لها تواصلها من جيل إلى جيل، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، عبر عمليات النقل والتحويل الثقافي؛ حيث تأخذ “التربية” دورها الأساسي في عملية تحقيق التواصل الثقافي بين الأجيال الإنسانية المتعاقبة.
إن التربية تمكن الإنسان من اكتساب ما يمكن أن نطلق عليه “السجل الثقافي” الذي يتحدد من خلال الحياة الاجتماعية ذاتها، وهو في كل مراحل حياته اللاحقة يحتاج إلى عامل التدريب والتربية والتعليم من أجل أن يكتسب هذه المهارات والقدرات التي تساعده على التكيف. إن الإنسان يحتاج إلى برنامج تربوي كامل على مدى الحياة ليستطيع التكيف مع متطلبات حياته الاجتماعية.
لقد أكد الفيلسوف الألماني “كانط”: “إن الإنسان لا يصبح إنسانًا إلا بالتربية”، بمعنى أن الإنسان بشخصيته الحالية هو انعكاس للأنماط التربوية السائدة في عملية التنشئة الاجتماعية داخل المجتمع. وما تسعى له التربية، من خلال تعريفها بوصفها عملية تنشئة وتفاعل اجتماعي شامل، هي صقل الفرد وتنمية قدراته العقلية وتهذيب سلوكه. وفي هذا الاتجاه يذهب عالم النفس الفرنسي “هنري بييرون” مؤكدًا القدرة الكلية للتربية حيث يقول: “إن الطفل مرشح لأن يكون إنسانًا، وهو ليس أكثر من مرشح للارتقاء إلى هذا المستوى، ومن ثم لا يعدو أن يكون غير وجود بالقوة لإرث النوع الإنساني؛ ومن هنا فإن الانتقال به من صورة القوة إلى صورة الفعل، من وجود إنساني بالقوة إلى وجود إنساني بالفعل، أمر مرهون بالفعل التربوي”. معنى ذلك إن الإنسان يفقد حقيقة جوهره الإنساني عندما لا يجد التربية التي تتعهده وتأخذ بيده إلى صورته الإنسانية.
والتربية، من منظور عالم الاجتماع الشهير “إميل دوركايم”، تتحرك على إيقاعات مبدأ الوحدة والتنوع في آن معًا، فالحد الأدنى من التجانس بين أفراد المجتمع ضروري لوجود المجتمع واستمراره؛ ومن ثم فالتربية تعمل على بناء هذا التجانس وتعزيزه بين أفراد المجتمع، وهي من أجل ذلك تغرس في نفوس الأطفال عناصر الوحدة والتجانس الضروري للحياة الاجتماعية. لقد كانت الميزة الأساسية “لإميل دوركايم” – إضافة إلى ملاحظاته التاريخية العامة – هي أنه أبرز الطابع الاجتماعي للتربية، وذلك على خلاف الرؤى الفردية التي كانت سائدة في عصره. إذ يقول: “تكون التحولات التربوية دائمًا نتاجًا ومؤشرًا لتحولات اجتماعية قادرة على أن تفسر ما يجري في مجال التربية”.
وينطلق “جون ديوي” في أفكاره التربوية من وجهة نظر “دوركايم”، فقد رأى أن للتربية “وظيفة اجتماعية”، بمعنى أنها عملية تجدد تستطيع الحياة بواسطتها المحافظة على دوامها؛ أي أنها مجموعة العمليات التي يستطيع المجتمع عن طريقها نقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني – في الوقت نفسه – التجدد المستمر لهذا التراث وأيضَا للأفراد الذين يحملونه. التربية هي عملية نمو وليس لها غاية سوى المزيد من النمو، إنها الحياة ذاتها بنموها وتجددها. لقد لاحظ “ديوي” أن الحياة التقليدية القديمة حياة تتميز بالبساطة، وأن التطور الاجتماعي العاصف يهدد نمط الحياة التقليدية بالزوال، وأن أنماطًا جديدة للحياة الاجتماعية تتوالد باستمرار.
أما عالم الاجتماع الألماني “كارل مانهايم”، فقد بين – في أعماله المختلفة – التزامه بالنظرية الاجتماعية للتربية، وأعلن عن دور المجتمع في تحديد مسار العمل التربوي واتجاهه. وعلى المستوى الأكاديمي كان متحمسًا لتدريس علم الاجتماع التربوي في مناهج تدريب المعلمين. وفي كتابه الرئيس: “الأيديولوجيا واليوتوبيا” يعالج “مانهايم” العلاقة بين المعرفة والنظام الاجتماعي، وهو في سياق تحليله لهذه المسألة، يرى أن المعرفة والأيديولوجيا تصدران عن تكوينات اجتماعية بنيوية. وفي تناوله لهذه القضية يُعَرِف “علم اجتماع المعرفة” بأنه العلم الذي يهدف إلى تحليل العلاقة بين المعرفة والوجود أو الفكر والواقع الاجتماعي التاريخي، حيث يتعقب جذور الأشكال المختلفة لتلك العلاقة خلال مسيرة التطور السريع الذي قطعته الإنسانية؛ أي أنه يهدف إلى الكشف عن تلك العلاقة الوظيفية التي تجمع بين أي موقف فكرى من جهة، وبين تلك الحقيقة الاجتماعية التي تكمن من ورائه من جهة أخرى. وقد رأى “مانهايم” أن المعاني أو الدلالات التي يتكون منها عالمنا ليست سوى ذلك البناء التاريخي الذي لا يكف عن الترقي، والذي يتطور في كنفه الوجود الإنساني نفسه. فلا موضع – إذن – للقول بوجود معانٍ مطلقة أو دلالات ثابتة، بل لابد من التسليم بأن الفكر الإنساني ينشأ ويتطور ويعمل دائماً في نطاق بيئة اجتماعية محددة.

أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة
كلية الآداب – جامعة عين شمس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى