المقالات

جائحة الذل – د. قصي الحسين

لم يعدم اللبنانيون لقاحا في هذة الأيام، غير لقاح الذل.
عبرتهم “جائحة كورونا” بأقل الخسائر الممكنة. إنتصروا عليها باللقاحات وبالتضحيات وبالحجر المنزلي.
عاشوا عاما وأكثر، وهم في صراع يومي مع هذا الفيروس القاتل. غير أنهم، عادوا فخرجوا إلى الحياة، وصار هذا الفيروس القاتل نفسه إلى الحجر.
اليوم تضرب لبنان جائحة أعظم من “جائحة كورونا”، التي صارعوها وصرعوها، وإنتصروا عليها. وفتحوا البلاد من جديد، بعد الإغلاق العام، لأشهر أو لفترات. وعاد الناس إلى العيش، في ظل ألوان الحياة. وتحرروا من الحجر. وتحرروا من أسر الحجر.
غير أن اللبنانيين، يتعرضون اليوم، كما قلت، إلى جائحة أعظم من جائحة كورونا، إنها “جائحة الذل”.
صاروا “أذل من البقل”. صاروا “أذل من وتد”. صاروا “أذل من القراد”. صاروا “أذل من عبيد
العصا”.
تراهم أذلاء في الطرقات، كما البقل، يدوسهم الذاهب والآيب، وهم يمضون طوال نهارهم، وشطرا من ليلهم، أمام محطات الوقود، لكيلة من البنزين، أو كيلة من المازوت.
تراهم “أذل من الوتد”، وهم يدقون على رؤوسهم مثله، أمام البنوك والمصارف، ودكاكين الصيرفة، حتى يغوروا في الأرض، لتشد بهم خيام سلاطين المال، وخيام سلاطين السياسة وخيام السلطة والحكم.
تراهم أذلاء أمام زعمائهم. يرتمون في أحضانهم. ويعيشون تحت أذيالهم مثل القراد الذي لا تهنأ له حياة، إلا في العيش تحت أذناب العجول والخيول والثيران والبغال. يعيشون عيش القراد، ولو مغموسة بالهناءة والذل.
اللبنانيون صاروا حقا أذلاء مثل “عبيد العصا”. الذين إرتضوا من الكرامة والحرية، بأن يعودوا من السجون إلى دورهم، وبأيديهم عصي موسومة من الأمير الذي أطلقهم، وجعلهم “عبيد عصاه” ما عاشوا، وفي أي مكان نزلوا. ما داموا أحياء.
جائحة الذل التي يتذوقها اللبنانيون اليوم، ما مرت على بلاد، ولا نزلت على قلوب العباد، مثلما هي تفعل بالناس، ولا يجرؤ أحد على الإحتجاج. ولا يتجرأ أيضا، على المطالبة بإسترداد ماله من سارقيه، بعد ظهورهم علانية، تحت الشمس.
وقديما قال الشاعر المتنبي:
“ذل من يغبط الذليل بعيش/
رب عيش أخف منه الحمام.”
حقا، صار الموت أخف على اللبنانيين، من هذة الحياة الذليلة التي يعيشونها: العتمة في دورهم وفي شوارعهم، وفي قراهم، وفي جحورهم، وفي حجراتهم،تشبه عتمة أهل القبور. وأطفالهم يموتون وهم يصرخون على عبوات حليب يتلفها تجارها، بكل سخاء، وبكل صلافة وكبرياء ولاينزلونها إلى السوق، إمعانا في إذلالهم إمعانا في ذلهم، إمعانا في الكيد لهم، إمعانا في إذاقتهم مرارة العبودية والذل.
فقراؤهم يموتون من ذل الرغيف في الحاويات. يموتون على الطرقات بذلهم، مثل “بقل الطرقات”.
كل يوم يدق اللبنانيون على رؤوسهم، كما تدق الأوتاد. ينفلقون ولا ينتفضون. يتشققون ولا يثورون. يغورون في الأرض، بآلامهم وأوجاعهم، ولايرفضون. يؤدون الطاعة العمياء، وهم يموتون.
أحكمت “التبعية” حول أعناقهم طوق الذل والمسكنة. وجعلتهم أقل من القراد شأنا عند أسيادهم. يتذوقون رائحتهم النتنة: يتذوقونها بأنوفهم، ولا يأنفون. لبنان تضربه اليوم جائحة، لم تمر على بلاد العم سام، ولا غير بلاد العم سام، من قبل. إنها جائحة الذل، التي أتى بها سلاطين الذل، “عبيد العصا”.، من دوائر الإكراه والإذلال.
جائحة الذل في لبنان، التي تضربه بقسوة، هذة الأيام، هلا يلاقيها العالم ب”لقاح الذل”، ويعتقه من أسرها، بعدما طال به الزمان.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى