المقالات

اوكسيجين
الكذب والانهيار واقتصادات الظل
مازن عبّود

اعتبر “ايمانويل كانط” بانّ اللغة تميزنا عن سائر الحيوانات الاخرى، فبدون التواصل واللغة نمسي وحوشا. واعتبر بأنّه اذا ما كذب الجميع على الجميع طوال الوقت تصبح اللغة أي التواصل باطلة. ودعا العقلانيين الى الامتناع عن الكذب كي لا تبطل اللغة. اساس الاقتصاد التبادل واساس التبادل الثقة. والثقة انتفاء الكذب.

اللغة فقدت اهميتها عندنا في لبنان، و”نجيبي” تحذر اولادها من التعاطي مع الجيران، مرتكزة على نظرية “إذا رأيت “نونو” تتجه شرقا، فاعلم انها ذاهبة غربا”. فكيف يمكن لغالبية شعب يكذب معظم الوقت ان ينهض اقتصاديا؟
يقول توماس جيفرسون بأنّ الشفافية هي اول فصل من فصول الحكمة. الحكمة في لبنان زجاج داكن، واظهار ما لا تضمر وكذب. مجتمع يعتبر الشفافية جهلا والخداع حكمة، نهايته السقوط.
في بلدنا فقد التواصل اهميته واللغة قيمتها. ندم “ايليا” مرات لانه صدّق “جوجو” الكذوب. لكنه خسر ايضا فرصة حياته لأنه لم يصدقه حين وافاه ناقلا اليه خبر قبوله في شركة “الخواجا جرجي في الكويت”. فكان ان طار العرض وطار عقله. وجود الناس التي تكذب في الحياة العامة كلفة غير محتسبة، تعطل التبادل لا بل تلغيه.
بلد ينهار ومسؤولوه يكذبون. الوقود ينفد في المؤسسات العامة. شبكات المياه انهارت. المولدات في المناطق الشعبية على طريق الزوال. واوجيرو بدأت تغلق السنترالات في الكثير من المناطق. ما عادت تلزمنا اللغة لأنها لا تؤدي الى التواصل والتبادل. نكذب في تعاطينا مع بعضنا البعض وفي تعاطينا مع الدولة. صفق الناس كثيرا لايلي خاوند لأنه متصالح مع ذاته. ايلي هو انا وانت. هو اللبناني الذي قال عنه جبران، بانه يولد في كوخ ويموت في قصر العلم. فشكرا د. فضلو خوري على تظهير انموذج يلزم.
نمونا في اساسه الفساد. وثمار الكذب الانهيار. “الفساد مرتبط بطبيعة الدولة” والدولة ترتبط بطبيعة الشعب. تتشابه بعض الدول في معدلات الفاسد لكن ليس في معدلات النمو، وذلك كنتيجة لارتفاع كلفة التبادل في السوق السياسية أي الفساد السياسي. التنافس في السياسة يفعّل الاقتصاد، لكن ليس في حالة كحالتنا تفتقد الى المحاسبة وتغرق أكثر في شراء الضمائر. اداء الدول الضعيفة والمقسمة غير ملائم للفعالية الاقتصادية، وحين تفقد الحكومات هيبتها، لا تعود قادرة على انفاذ القوانين. فيتزايد الفساد في القطاع العام ويتراجع النمو. في لبنان شعب يكذب على شعب، وساسة على الجميع. كذبنا حتى في التزاماتنا الخارجية. فأمسينا متروكين على رصيف الايام. الانهيار اساسه اخلاقي.
“ايرلي وبكسون” اعتبرا بانّ الانهيار والعقوبات يغيران انماط التبادل الاقتصادي (البحث في الظلال، Political Research Quarterly 2019 )، فتنمو اقتصادات الظل على حساب الاقتصاد الفعلي. وتستنبط وسائل جديدة للبقاء. تتراجع ايرادات الدول وتفقد القوانين احترامها ويتنامى الفساد. الجغرافية السياسية تحفز مثل هذه الاقتصادات التي تتمخض عن شخصيات ظلال تصل الى البرلمان، ويتداعى الاستقرار الساسي.
تجّار سوق دوما كانوا يتبادلون شيفرة “التفنيص” في استقبال ساسة محلتهم، الذين “سعروا حتى “المرحبا” “. فينتصب “سعيد” كي يقول: “جانبون كاستا فليكس”، فيرد عليه “حبقوق”: “بون بون يا حبيب القلب” بعيد انتهائهم من خطبهم الرنانة.
حفلة الكذب قائمة. ولن نستفيق من كبوتنا، الا إذا ما تحررنا من ادماننا على الكذب.

المصدر/النهار /الثلاثاء/٥ تموز/٢٠٢٢

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى