المقالات

أقارب لقارب الموت \ د. قصي الحسين

للموت أقارب، لا يمكن أن يتخلى عنهم. يزورهم كل يوم. يتفقدهم. يظل بجانبهم. يرعاهم. يؤنسهم، ولا يكون ثقيلا عليهم. يكون معهم كظلهم. فلا يتركهم ولو للحظة واحدة. لأنه موكل بهم. يرحل معهم أينما رحلوا ويجلس معهم أينما جلسوا. ويسهر عليهم إذا ما نعسوا. إذا ما ناموا. لأنه راعي عمرهم كله. يرخي لهم حبال العمر. فيفرحون وينشطون. وحين يريد أن يقطفهم، يشدهم بأنشوطته، مهما كانوا بعيدين. مهما كانوا في نأي عنه. فينقادوا إليه، بكل تؤدة. بكل أدب. يستسلمون لإرادته، ولا يتذمرون. لأنهم كانوا قد حفظوا درسه: “لا مهرب من الموت”. لا مهرب من ركوب مركب الموت. لا مهرب من ملاك الرحمة. من ملاك الموت.

لا شأن لصحبة الموت بالموت. فهم منذ أن خرجوا إلى الدنيا، كانوا إخوة الموت. إستقبلوا الدنيا بالبكاء. تعلموا سر الموت وأخفى. وما عادوا يتذمرون من صحبة الموت. لا ليلهم. ولا نهارهم. لا في الصباحات ولا في الأماسي. تصالحوا مع الموت. صاحبوه، وأسلسوا له الطاعة. أسلسوا له القياد. وجابوا بصحبته الآفاق بلا سؤال. بلا جواب. وهم أدرى بقربهم منه. وهو أدرى بهم، لا محال.

للموت آلة حدباء في البر، يحمل عليها من شاء، متى شاء. بلا إستشارة مسبقة. بلا علم مسبق. بلا تحضير. بلا إنذار. وبلا نذير.

فجأة يحضر الموت آلته الحدباء، لينقل عليها أصحابه، أقاربه، الذين أمضوا عمرهم في صحبته. يرسلها بكل أدب. بكل رهبة. بكل خشوع. ولا راد لإرادته، لأنه الأخ الأكبر. لأنه الموت الصارم: يقترب منهم بكل حنو. يفاجئهم بصورة ملاك. يعرفه القاصي والداني، إنه ملاك الرحمة. إنه ملاك الموت. ولا رحمة أعظم من رحمته، حين يصير المرأ في طلب الرحمة من السماء.

ومثلما للموت آلة حدباء في البر. فللموت أيضا قارب في البحر. قارب مجهول الهوية. مثل الآلة الحدباء. لا تعرفه سائر قوارب البحر. يرسله الموت إلى أصحابه، ليخلصهم من الجوع. من الطغيان . من شدة الفقر. من النوم بلا عشاء. يأتي المدينة ليلا: يتفحص أهلها. يعجمها عجما. يضع سره في أذن الفقراء. يهمس لهم بإقتفائهم سرا، بلا جهر. إلى المركب الذي إستحضره. ليقلهم خفية إلى أعماق البحر.

الموت يوشوش أصحابه، وشوشة البحر للبر. يغري بهم في نزهة ليلية. يغري بهم في نزهة بحرية. فيصعدون إلى القارب. ولا يفطنون للآلة الحدباء، تنتظرهم على البر. هناك أقاربهم. يكونون في إنتظارهم. هناك من يذوق عنهم طعم الموت. لأنهم أقارب زورق الموت. لأنهم أقارب مركب الموت. لأنهم أقارب الموت.
طرابلس مجددا، كانت على موعد مع قارب الموت. هب إليه أقرباء الموتى- صحبة الموت- يلتقطون منه أفئدتهم. ظهروا على الأرض. على البر. على الشاشات. ظهروا عبر الأثير، أقرباء قارب الموت. أقارب قارب الموت.

الموت يوجع أقرباءه، يقلقهم. ولا يوجع الموتى. لا يوجع أصحابه. عادوا برحمته إلى أرضهم. تركوا التفجع والبكاء لأهلهم. يندبون الحظ، في دنيا، قادت أبناءهم إلى قارب الموت.

كم مرة في العام على قارب الموت، أن يزور طرابلس. رحلاته إليها لا تنتهي. لأن الفقر فيها لا ينتهي. قوارب الموت تكاثرت على طرابلس، كأنها من نسل المدينة. فلم يعد أهلها يعرفون، القارب الأدنى إلى الموت. ولا القرب الأقصى. فلم يعد أهلها يميزون قارب الموت لأن كل القوارب التي تزورها، صارت قوارب موت.

يخرجون من بيوتهم، بلا وداع، ينظرون إلى أهلهم خلسة، ويذهبون في رحلة الموت بقارب، يوصلهم حتفا إلى غايتهم، فيضحكون على الموت بالموت. ويخلعون القارب عن أبدانهم علامة، حيثما غابوا في البحر.

طرابلس كلها اليوم، من نسل القوارب. تخرج إليها كل صباح، تتفقد أقاربها. تتفقد أقارب القوارب. تستمع إلى حكاياتهم، حين يعاجل الموت أبناءهم، فينخطفون، ويصير للموت منهم أقارب.

أقارب قارب الموت في طرابلس، اليوم حزانى، لأنه لم يتسع لهم أن يودعوا أبناءهم. كانوا يريدون أن يذهبوا معهم، في رحلة البحث عن شاطئ قريب، يجدون فيه مأمنهم. يجدون فيه خبزا لهم. يجدون فيه خبرا، عمن رحلوا قبلهم في سفرة سابقة، وعانقوا البحر. وعانقوا الموت. وعانقوا الرحمة.

طرابلس اليوم أخت البحر. تضع خدها للموت، مساء كل يوم، ولا تستيقظ إلا على فاجعة جديدة. كيف لهذة المدينة الصابرة، على الجوع والماء والموت، أن تكون أم الفواجع كلها، ولا تنحني، إلا للبحر. كيف لهذة المدينة الثكلى، أن تودع أبناءها كل يوم، في قارب الموت. ثم تجلس قبالة البحر، تنتظرهم موجة موجة. جثة جثة. تعدهم. تتفقدهم. وتنسى من أكله سمك البحر. ترغي و تزبد بأنفاسهم، ولا تنقطع أنفاسها.

طرابلس، مدينة الأفق والموج. تستعيد كل صباح أبناءها، طيورا بارحتها. برحتها الهجرة في طلب الحب. في طلب الخبز. فكانت على موعد مع حتفها في أعشاشها. تلك التي خبأتها في القوارب ، خشية أن يفر الموت من يدها.

من أوحى للموت أن ينتظر طرابلس في قواربها. أبناؤها ينتظرونه اليوم بلا موعد، لأن الجوع ينفرهم إليها.

قوارب الموت، على طول الشاطئ، من بحر القلمون، من ملاحاتها، يخرج السمك المملح إلى بحر العريضة. كل مساء تجتمع الطيور المهاجرة. كل مساء تحط الطيور القتيلة. الطيور المنتحرة، في أعشاشها في قوارب الموت. تنتظر سفير الرحمة. ملاك الموت، أن يأتي إليها. أن يتسلم أمانته منها. تنقده طرابلس أبناءها نقدا. تعدهم له جثة جثة، ثم تجثو على البر المقارب، على التلة. تحت الصنوبرة الشاهدة. تنظر إلى القوارب، وهي تدخن أنفاسها، في أعظم محرقة لجثث أبنائها. في أعظم محنة لها في تاريخها. محنة الفقراء، حين يطلبون الموت، شهداء الجوع. شهداء جوعى. شهداء قوارب الموت، ينحبهم أقاربهم، كلما غرق المساء في البحر. كلما لفظ جثة منهم. كلما ندبهم أقاربهم شهداء الجوع، تحت الصنوبرة الشاهدة. تحت الصنوبرة المجاورة.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى