ثقافة

البيان الختامي حول: “التربية المدنية: إشكاليات وجودها في المناهج اللبنانية ودورها في التنشئة المواطنية ” إعداد: د. مصطفى الحلوة

استكمالا للورشة، التي عقدها “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية”، بالشراكة مع مؤسّسة Hanns Seidel
الألمانية، حول “إشكالية كتابة تاريخ موحّد للبنان” ( 22 و 23 تموز 2022 (، بادر الطرفان إلى عقد ورشة تفكير ونقاش،
بعنوان: “التربي ة المدنية: إشكاليات وجودها في المناهج اللبنانية ودورها في التنشئة المواطنية”، يَومَي 23 و 24 أيلول 2022 ،
وذلك في قاعة المحاضرات 1188 ، جبيل. علمًا أنّ إشكالِيَّتَي مادة التاريخ ومادة التربية المدنيّة في صُلب الإصلاحات، التي
دعت إليها “وثيقة الوفاق الوطني اللبناني”)إتفاق الطائف(، للعام 1989 ، إذْ كان تشديدٌ على إعادة النظر فيهما، واعتماد كتاب
واحد موحّد، لكلّ واحدة من هاتين المادتين، بهدف توحيد خطابَي التاريخ والتنشئة المدنية في المناهج اللبنانية، وبما يُكرّس
تغليب الانتماء المواطني على ما عداه من انتماءات فرعية. وقد تميّزت الورشة بحضور المسؤول الاقليمي لمؤسسة “هانس
زايدل “السيد كريستوف دو ڤارتس، ومسؤولة البرامج في الأردن ولبنان وسوريا السيدة عُلا الشريدة، مع مشاركة واسعة
لطلبة جامعيين، أتوا من عكار وطرابلس والجنوب، وإلى مهتمين .
أستُهلّت الورشة بالجلسة الافتتاحية، وقد مهَّدَ لها وأدارها د. مصطفى الحلوة، وكانت كلمة لرئيس “مركز تموز” د. أدونيس
العكره، شكر فيها مؤسسة “هانس زايدل”، بشخص السيد دو ڤارتس، لإقامة هذه الورشة من خارج أجندة “المركز” السنوية.
ثم كانت كلمة السيد دو ڤارتس، انطلق فيها من موضوع الورشة، مستعرضًا التجربة الألمانية النموذجية، في مجال التنشئة
المدنية والتربية على المواطنية، ومتوقّفًا عند سائر الأطر، التي تُسهم في تعزيز الحضور المواطني في ألمانيا. وأعقب ذلك
كلمة منسّق أعمال الورشة د. نمر فريحة، تطرّق فيها إلى الأسباب الموجبة لعقدها، مع استعراض ما تضمّنته جلساتها،
بمداخلاتها التسع، التي ستُجيب عن الإشكاليات المطروحة .
عن عناوين هذه الجلسات، فهي الآتية: نظرة تاريخيّة نقديّة/التربية المدنية والمواطنيّة/مرجِعيّة التدريس بين المدرسة
والمجتمع/التربية المدنية في التثقيف السياسي والقانوني/نظرة إلى المناهج ومضمونها/فلسفة التربية المدنية من وجهة نظر
مواطنيّة. وقد ساد أجواء الجلسات، بمداخلاتها التسع، نقاشٌ معمّق وحوار تفاعلي، وكان أن انتهى المشاركون إلى البيان
الختامي، بالمحاور التي تلي .
أولً : في تحديد المفاهيم والمصطلحا ت
تفاديًا للالتباسات، التي قد تنجم عن استخدام بعض المفردات/المصطلحات العائدة لأطروحتنا، كان لا بدّ من تحديدها، على
الوجه الآتي :
• التنشئة Socialisation والتربية Education ، كلتاهما، وإن كانتا تتقاطعان وتشتملان التعلّم، فهما تختلفا ن في بعض نواحٍ.
فالتنشئة عملية تهدف إلى جعل الفرد جزءًا من المجتمع أو الجماعة. وهي، في المقام الأول، عملية عاطفية وجدانية، تحمل
بُعدًا تفاضليًّا، وتنتج عن التفاعل مع الأسرة والأصدقاء والمحيط الأوسع الخ.. في حين أنّ التربية تعني نمطًا من التعلّم
النظامي éducation formelle في المدرسة، سواءٌ أكان ذلك في الصفّ أو خارجه، أو بشكل لا نظامي، خارج المؤسّسة
التعليمية .
استكمالا، ير ى عالم الاجتماع والفيلسوف دوركايم إلى التربية “أنها الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة،
التي لم تصبح بعد جاهزة للحياة الاجتماعية، وهدفها تنمية عدد من الاستعدادات الجسدية والفكرية والأخلاقية عند المتعلّم”.
ويذهب الفيلسوف هربرت سبنسر إلى أنّ “التربية هي إعداد الفرد ليحيا حياة كاملة “.
إشارة إلى أنّ الكثيرين من الباحثين في التربية، لا يفرّقون، أقلّه لغويًا، بين مصطلحَي التربية والتنشئة .
• الوطنيّة، توصيف حالة ذات بُعد عاطفي وجداني. فالوطن هو المُستَقرّ الجغرافي، الأرض. والوطنية هي أن تصبح هذه
الأرض غير قابلة للتعويض، فتتجاوز التقدير المادي، بحسب الانتروبولوجي والفيلسوف الانجليزي Ernest Gellner ، في
كتاباته حول الوطنية .
• المواطنة، لغةً، هي مصدر أصلي لفعل واطن، أي سكنَ وطنًا ما، مما يجعلنا جميعًا نُولَدُ مواطنين، أي نُقيم في وطن .
• المواطنيّة، لغةً، هي مصدر صناعي، مشتق من اسم الفاعل مواطن، فيصير المصطلح، بهذه الزيادة، إسمًا دالًّا على معنى
مجرّد، لم يكن ليدلّ عليه قبل هذه الزيادة. إذًا لمصطلح المواطنيّة مدلولات، تتخطّى حالة الإقامة أو السكن في موطن مع
مواطنين آخرين، ليكتسب معان ي الإنتما ء والمشاركة والمساءلة والمبادرة والمحاسبة والسلطة.. الخ .
ثانيًا: تطارُح أسئلة تؤسّس لرؤى حول التنشئة المدنيّة

  • هل أدّت/أو تؤدّي التربية المدنيّة، لدينا، الدور المنوط بها في تنشئة المواطن الصالح والمستنير؟ ولماذا لم يُفضِ المنهج،
    وفق أهدافه، إلى النتائج المرجوّة، في تكوين المواطن الواعي والمثقف والمشارك في الشأن العام والمحاسب؟
  • تأسيسًا على ما سبق، هل ثمّة خيبة، إذْ لم تتحقّق الإنتظارات، التي تمّ الرهان عليها، على الصعيدين، المجتمعي والوطني؟
  • ما هو واقع هذه المادة؟ هل باتت غير مُستحبَّة، من قِبَل التلامذة، وحتى من قِبل الأهل؟
  • ما هي الأسباب الحقيقية لتراجُع مادة التربية المدنية، وجعلها في آخر اهتماماتنا التعليمية والتربوية؟
  • هل إدارات المدارس تُولي الاهتمام الكافي لهذه المادة الأساسية، أم تجدها من لزوم ما لا يلزم ؟
  • هل غدت مادة التنشئة المدنية للحياة أم للمدرسة؟ يعني هل بات الهدف منها تحسين فرص النجاح المدرسي، عبر الحصول
    على العلامة الجيّدة، التي يسهل الحصول عليها، أكثر من كونها وسيلة تربوية، يستخدمها المجتمع اللبناني لتنشئة المواطن
    خير تنشئة ؟
  • كيف يمكن إقناع المتعلّم بالتعرّف على الحكومة واحترام المؤسسات والدستور وبعض القوانين، في وقت يرى بأمُّ العين،
    الانتهاكات اليومية من قبل الذين وصفناهم في الكُتب، بأنهم حُرّاس الدستور والقانون، ومن العاملين على تطبيقهما؟
  • أَلَمْ تكُن الأصوات، التي صدحت بها حناجر طلاب المدارس الذين شاركوا في ثورة 17 تشرين 2019 ، صرخاتٍ، تؤشّر
    على سقوط القناع عن وجوه المسؤولين البشعة، وعرّت منظومة الفساد والإفساد؟
  • من هو المعلّم، الذي سيتولّى تدريس مادة التربية الوطنية؟ هل هو معلم التاريخ أو الجغرافيا أو الأدب؟ هل هو المتخصص
    بالقانون أو بالعلوم السياسية أو بعلم الاجتماع؟ وفي حال كان صاحب اختصاص وذا ملاءة علمية، فماذا لو كان مؤدلجًا،
    ويسعى إلى “تمرير” منهج خفي، خارج إطار المنهج الرسمي؟
  • إنطلاقًا من كل ما سبق من تساؤلات، كيف لنا أن نُفيد من إسهامات مادة التربية المدنية، وفق منهجها الحالي على علّاته،
    في عملية التربية على المواطني ة، ونرفع مؤشّر فعاليتها ؟
  • من خارج السياق، لماذا هناك مادة تربية، في حين أنّ التربية ليست فقط مواد دراسية، بل هي عملية ذات بعد شمولي؟
    ثالثًا: في السيرورة التاريخية لمادة التنشئة المدنية.. المناهج وكتب التدريس
    في مقاربتنا المسألة، لا بدّ من تقصّي البدايات، منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر )في الغرب(، وصولًا إلى تعاطينا،
    لبنانيًّا، معها .
  • عرفت التربية المدنية وجودها الفعلي، في العملية التعلّمية، بعد قيام الدولة-الأمّة، إثرَ معاهدة وستفاليا (1648)
  • أشتُقَّ تعبير التربية المدنية من اللاتينية (civicus) ، أي ما يتعلّق بالمواطن. وبما أنّ الغاية منها توفير معطيات حول الدولة
    والمجتمع، ومشاركة المواطن في العملية الديمقراطية، فقد أطلق عليها بعض الغربيين لاحقًا “التربية الديمقراطية “
  • شكّلت المدرسة ميدان التنشئة المدنية الأكثر إتساعًا، فكانت إنطلاقتها مع المرحلة الابتدائيّة، وتدرّجت، في محتواها
    ولغتها، صعودًا حتى الصفوف المنتهية (terminales)
  • إنّ المبادىء، التي أرادت الحكومات تنشئة أجيالنا عليها، غدت جزءًا من المناهج، كما الكُتب التي يتمّ تدريسها. وقد كان
    لأميركا تجارب متعدّدة، في هذا المجال، بدأت مع المفكّر والسياسي Benjamin Franklin ، الذي علّل أهمية تعرّف
    المواطن/المتعلّم على حقوقه وواجباته، وكيفية خدمة وطنه .
  • أطلق الاميركيون تسمية “التربية المواطنية” على التربية المدنية. واستتباعًا، نجدُنا بإزاء إستخدام مصطلح “دولة
    المواطن”، في الأدبيات الغربية، وليس مصطلح الدولة المدنية .
  • في مسار تطوّر مادة التنشئة المدنية، أميركيًّا، فقد طغت العناصر السياسية والوطنية على المادة، لاسيما إبّان الحرب
    العالمية الثانية، فكانت مسمّيات شتّى لهذه المادة .
  • على المستوى اللبناني، لجهة تطوّر مسار مادة التنشئة المدنية، قبل قيام الكيان، فقد انطلقت، مطلع القرن العشرين، مع
    التعليم الديني، الذي كان يُشدّد على مختلف الأمور الحياتية والسلوكية .
  • لم يكن للتربية المدنية، زمن العثمانيين، حضور، كونها، في بعض جوانبها، ذات صبغة سياسية، مما يتناقض مع توجّهات
    السلطنة .
  • بتأثير من البعثات الأوروبية، كان للمدارس المسيحية، أن تدمج التعليم الديني مع التربية الأخلاقية والمدنية .
  • المرسوم رقم 2679 ، الصادر عن سلطات الانتداب الفرنسي، في العام 1924 ، نصَّ، في إحدى مواده، على إعطاء سلطة
    المراقبة أو سلطة التفتيش الفرنسية الحقّ بالتدقيق في المدارس، حول الصحة والأخلاق .
  • مناهج العام 1925 ، جعلت مادة الاخلاق مادة مستقلة، في المرحلة الابتدائية. أمّا في المرحلة المتوسطة )التكميلية(، فقد
    وردت مع الدراسات الاجتماعي ة .
  • من أهداف المنهج الرئيسية، في تلك الحقبة، تطوير أخلاق المتعلمين. وقد جاء فيها ما حرفيّته:”إنّ أحد أهداف التربية
    الأخلاقية والمدنية انتما ء المتعلّم للأرض-الأمّ، )أي الوطن( وللعائلة”. وهذا يعني تجاوزًا للأمور الأخلاقية إلى الاهداف
    المواطنية .
  • في الصفوف الأولى )المرحلة الابتدائية(، غلب الطابع الأخلاقي على مادة التنشئة المدنية، فكانت هذه الموضوعات، على
    سبيل المثال )السلوك، النظافة، العائلة، الشجاعة الأخلاقية، الخ(. أمّا في الصف السادس )الأول متوسط(، فقد كانت الغلبة
    لمادة التربية المدنية، ذات السمة السياسية )الأمة، الدولة، القانون، الحرية، المساواة، الإدارات العامة، الخ( .
  • بما يخصّ الكتب، فهي لم تكن متوفّرة في المدارس الحكومية اللبنانية. فالمعلم كان يُملي على المتعلمين بعض الأفكار، التي
    يجب تغييبها عن ظهر قلب )توجُّه وعظي إرشادي( .
  • أول كتاب وُضع باللغة العربية، في العام 1927 ، جاء بعنوان “تهذيب الأخلاق والعلوم الاجتماعية والوطنية”. وقد تناول
    عدة موضوعات، أبرزها: الله، العائلة، السلوك الحسن )في الشق الأخلاقي(، بينما ف ي الشقّ المدني/ الوطني، ثمة )الأنظمة
    السياسية، القيم الديمقراطية، الانتخابات، القضا ء..(. كم ا تضمّن جزءًا في الاقتصاد السياسي والرأسمال والتجارة. وقد شدّد
    على وحدة الشعب والأرض.
  • تمّ استعمال هذا الكتاب في عدة صفوف، أي جرى تقسيمه على أجزاء .
  • بدءًا من العام 1928 ، كانت مشاركة المسؤولين اللبنانيين في القرار التربوي. وقد تمّ دمج تعبيرَي تربية أخلاقية ومدنية
    معًا في المنهج. وقد بقي الأمر كذلك حتى نهاية الانتداب الفرنس ي .
  • غداة الاستقلال، كانت مناهج العام 1946 ، وقد تضمّنت التربية الأخلاقية والمدنية، في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة،
    ولكن في المرحلة الثانوية، غدت تسمية المادة: أخلاق ودين، وأحيانًا دين ومدنيات .
  • لم تتضمّن مناهج العام 1946 أيّ حصرية لوزارة التربية، في تأليف الكتب وإصدارها. ولكن في العام 1950 ، تبدّلت
    الأمور، فكان المرسوم الذي نصّ على أنّ كُتب التاريخ والجغرافيا والأخلاق والشؤون المدنية يجب أن تحصل على
    موافقة وزارة التربية كي ي مكن استخدامها، وعلى أن تُقفل المدارس التي تخالف منطوق هذا المرسوم .
  • بما يعود إلى مناهج 1968 – 1971 ، فإنّ مناهج 1968 ، الخاصة بالمرحلة الثانوية، لم تتضمّن مادة التربية المدنية أو
    الوطنية أو الأخلاقية، بل تضمّنتها لائح ة المواد، التي سيتمّ الامتحان الرسمي بها لشهادة البكالوريا بقسميه ا .
  • بالنسبة لمناهج المرحلة المتوسطة، التي صدرت في العام 1970 ، فقد تضمّن برنامج توزيع المواد الدراسية مادّتَي
    “التربية الدينية” و”التربية المدنية” منفصلتين. ولم يأتِ المنهج على ذكر هذه المادة ولا محتواها، في أي موضع آخر. لذا
    يُستخلص أن منهجها، لهذه المرحلة، بق ي ذاته، الذي تضمّنته مناهج العام 1946.
    أما عن منهَجَي مرحلة التعليم الابتدائي والروضة، للعام – 1971 ، فثمّة منهج الاجتماعيات لمرحلة الروضة الثانية، وهو
    يحوي عناوين، من مثل )البيئ ة البيتية، الأهل، المناسبات، المدرسة، الشارع.. .(. وقد تمّ تدريس الاجتماعيات مع اللغة
    العربية، من دون تسمية لمادة التربية المدنية .
  • في المسار المتعثّر، بل “المشبوه” للمادة، أصدرت الحكومة مرسومًا، في العام 1972 ، رقمه 4202 ، أعلنت فيه تعليق
    الامتحانات الرسمية لمادة التربية المدنية، في العام الذي يلي، أي 1973 ، مما يعني الموت الرحيم لهذه المادة. ويُلاحظ أنّ
    لهذا التدبير خلفيات سياسية، لا تربوية، إذْ جاء في حُمّى صعود اليسار في الانتخابات النقابية )الاتحاد الوطني لطلاب
    الجامعة اللبنانية، روابط المعلمين.. الخ(. فهذه المادة، في عُرف الممسكين بالنظام، تصبّ الزيت على نار الحالة اليسارية
    المتأجّجة .
  • كان التحوّل الدراماتيكي، في مناهج العام 1997 ، وذلك بدفع من “وثيقة الوفاق الوطني”-باب الإصلاحات. فقد وُضعت
    مناهج مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية في جوّ اختلف كثيرًا عن سائر الأجواء، التي رافقت سائر المناهج .
  • دعا “إتفاق الطائف” إلى توحيد الكتاب، لمادّتَي التاريخ والتربية الوطنية. وقد جاءت مناهج العام 1997 متضمّنةً مواضيع
    كثيرة، فاقت قدرة المتعلمين على استيعابها، وهي بحاجة كبيرة إلى الحصص الدراسية لتغطية المحتوى، هذا إذا سلّمنا
    جدلًا بأنّ هذا المحتوى مناسب التلامذة كلّ صف .
  • استأثر “المركز التربوي”، بوضع سلاسل كُتب هذه المادة، مانعًا القطاع الخاص من وضع مؤلَّفات مدرسية له ا .
    رابعا: في الرؤى وبعض المعطيات العائدة لمادة التنشئة المدنية
  • لمادة التنشئة المدنية دور تأسيسي، في بناء المواطن الصالح والمستنير، واستطرادًا في بناء المجتمع. فهذه المادة،
    التي تُشكّل المؤسسةُ التعليميةُ ساحتَها الأساسية والطلبةُ مُستهدَفيها، هي من الاتساع، بحيث تشمل غالبية العائلات
    اللبنانية، بما يمثّل حوالي ربع سكان لبنان .
  • تُسهم هذه المادة في صوغ شخصية المتعلّم، وتشكيل هوية المجتمع، بمضمونها الواسع والشامل، كونها تزخر
    بالمعارف، وتربّي على القيم، وتؤسّس للسلوك، مما يجعل المتعلمين يبنون رؤى وتطلعات، من شأنها أن تجعل من
    التنوّع، ضمن الوحدة، عامل إغناء لشخصية المتع لّم، يدعم العيش معًا والعمل للبنان الوطن، بجميع أبنائ ه .
  • في استعراض الأهداف العامة للمادة، إستنادًا إلى مناهجها، للعام 1996 ، نتوقف عند النقاط الآتية: تعزيز وعي
    المتعلم بهويته اللبنانية وحبه لوطنه وتعلقه بأرضه والدفاع عنها/ترسيخ وعي المتعلم لهوية لبنان العربية/تعزيز وعيه
    للأبعاد الإنسانية والعالمية والتضامنية في مواطنيته/الانفتاح على الآخر المختلف وقبوله/تعريف المتعلم بحقوقه
    وكيفية المطالبة بها وممارستها/تعريف المتعلم بواجباته وكيفية إلتزامها/تنمية مهارات الملاحظة والتحليل والتفكير
    الناقد، لدى المتعلم، كم ا إعداد المتعلم على مهارات التواصل، وحلّ المشكلات، وحسّ المبادرة حيال المشكلات التي
    تعترضه/إعداد المتعلم لتمثّل القيم الإنسانية وعيشها في أسرته ومجتمعه ووطنه/ترسيخ ثقافة المواطنية، الحاضنة
    للتنوّع الثقافي والديني لدى المتعلم./تثمين ممارسة قيم الديمقراطية وثقافة إحترام القانون وحرية الفكر والضمير/بناء
    الوعي الاجتماعي والسياسي، لدى المتعلم، لتفعيل مشاركته في أُطُر الحياة الديمقراطية/تعزيز حضوره الفعال في
    ميدان الخدمة المدنية والبيئية والصحية والاجتماعية وفي مجال التنمية المستدامة .
  • تأسيسًا على هذه الأهداف العامة، ومن وحي العناوين الكبرى المنضوية إليها، كانت الأهداف الخاصة، لكل مرحلة
    من مراحل التعليم، بشكل يتواءم وأفهام الشريحة، التي يتمّ التوجه إليها. علمًا أن الأهداف الخاصة تغدو بمنزلة
    تدابير إجرائية .
  • في مناهج التربية المدنية الحالية، يطغى إستخدام الطرائق المرتكزة على المعرفة ونقلها، مع تزايد الاعتماد على
    بعض الأساليب التفاعلية، لاسيما بين بعض شرائح المعلمين .
  • الأسرة والمدرسة والمجتمع، هذه الثلاثية الوحدانية، جعلت من التربية المدنية ممرًّا إلزاميًّا نحو مواطنية ضامنة
    لكل القيم الانسانية، الفردية والعامة .
  • المادة تركّز على مفاهيم المواطنة، بحدودها الدنيا، أي التي تكتفي بالمعارف النظرية، وبعض الأنشطة البسيطة، مما
    يؤدي إلى نقص الدافعية، لدى المتعلمين، وخلق هوّة بين ما يصبو إليه المعلمون وبين استعدادهم لتغيير نظرتهم
    للمادة وطريقة تدريسها .
  • ليست المشكلة في محتوى المادة، ولا في النصوص المطروحة، بل هي، في جانب كبير، تتعلّق بمن يعلّم هذه
    المادة، ومدى انتصار مفاهيم التربية في شخصيته
  • رغم بعض النواقص والثغرات التي تشوب المنهج )أهدافًا ومحتوى(، فهو منهج متقدّم، يتبنّى الديمقراطية، كعنوان
    للنظام السياسي، ويسعى إلى بناء مواطن متنوّر ومنخرط في الحياة السياسية .
  • ذهبت بعض الدراسات التربوية الجادّة إلى أنّ مادة “التربية الوطنية والتنشئة المدنية” مضخّمة، من حيث المعطيات،
    لا تتواءم مع مستوى المتعلمين، فهي أشبه ما تكون بمادة حقوقية، لطالب جامعي، مما أوجد جدارًا بين المتعلم
    والمادة .
  • المناهج، التي عُمل بها، بدءًا من العام 1997 ، لم تستطع تشكيل عنصر وحدة للمجتمع، ولم تساهم إلّا بإعادة إنتاج
    المجتمع الطائفي، بحيث نرى طغيانًا للثقافة الطائفية على الثقافة الوطنية .
  • خلت هذه المناهج من عناصر مربوطة بتاريخ الوطن، بشقّه الحديث بخاصة، وبجغرافيته، بشكل كبير. كما خلت من
    المهارات الجسدية)الرياضة(، والتقنية والمهنية والحرفية
  • أعرضت المناهج عن تقديم محتوى قيمي، يحفّز على احترام الكفاءة، في ظلّ تساوي الفُرص بين المواطنين،
    وأهملت الإشارة، بشكل جلي، إلى حقوق المرأة والطفل، عبر تبنًي قيم ذات ارتباط بعدم التمييز )جندري/ طائفي ( .
  • أثبتنا، كأجيال من اللبنانيين، أنّنا نفضّل مخالفة القانون على التزامه. وإذا التزمنا، فإنّ ذلك نابع من خوف وليس عن
    اقتناع. علمًا أنً الفرق كبيرٌ بين الحالتين، فهناك نسبية إفادة كلّ فريق من تطبيق القانون أو من عدمه .
  • في مواجهة هذا الوضع، بما يُخلّف من تداعيات سلبية، جرت محاولة، على قدر من الأهمية، من قِبَل مؤسسة
    “أديان”، لتحسين محتوى المادة، وذلك في العام 2014 . وقد تمّ إصدار “منهج التربية على المواطنة الحاضنة للتنوّع
    الديني”. بي د أنّ هذه المبادرة، التي أُجهضت لأسباب متعددة، شكّلت فرصة لا تُعوّض.
    خامسً ا: في المقترحات والتوصيات
    1
    1 – بعد مضيّ نيّف وربع قرن على التعديلات الأخيرة، التي طالت منهج التربية الوطنية والتنشئة المدنية ) 1996 –
    2022 (، وإذْ لم يتم إلتزام ما دعت إليه المناهج بعامة، لجهة إعادة النظر فيها وبالكتاب المدرسي، فإنه من الأهمية
    بمكان تعديل مادة التربية الوطنية، على ضوء التطور الدراماتيكي الذي تشهده البشرية راهنًا، مع ما يطرحه هذا
    التطور من قضايا جديدة ومستجدّة .
    2
    2 – في إطار عملية تطوير المنهج والكتاب المدرسي، كما الأنشطة المواكبة، ينبغي أن تُقدَّم المادة، في لبوس مختلف عن
    المعتاد والسمة التقليدية، فتتضمّن قضايا حيّة، لصيقة بالمجتمع اللبناني وهمومه، وتُطرح موضوعات، يُشكّل
    محتواها إشكاليات، يقوم المتعلمون بمعالجتها وابتداع حلول لها .
    3
    3 – ينبغي أن تضمّ المادة قضايا وأحداثًا معاصرة، باتت من إهتمام الجيل الجديد، تخاطب تطلعاتهم وتأخذ بعين النظر
    مخاوفهم والهواجس. ناهيك عمّا تأتي به ثورة الاتصالات الكاسحة وما يتمّ إنجازه في مختلف حقول التكنولوجيا
    وتطبيقاتها .
    4
    4 – استكمالًا، يجب أن تلحظ المادة تجارب عاشها لبنانيون، داخل لبنان وخارجه )في بلاد الانتشار(، تجسّد قصص
    نجاح شخصية، )قصة نجاح كارلوس سليم، على سبيل المثال لا الحصر(، بما يُشجّع على محاكاتها وترسُّم خطى
    أصحابها .
    5
    5 – في مجال تعزيز التنشئة المدنية، لدى المتعلّم، ينبغي جعل جميع مواد التدريس منافذَ إليها: فمن خلال اللغات
    والتاريخ والجغرافيا، تكون إطلالة على منظومة القيم والثقافة وعلى الإطار الجغرافي للوطن وبُعده التاريخي. ومن
    خلال الرياضيات والعلوم الاختبارية وعلوم الحياة والأرض ثمّة الإفادة من مهارات مرتبطة بالتفكير العلمي والحس
    النقدي والتجريبي. وعن طريق الرياضة والعمل الاجتماعي والخدمي، يكون الانخراط الفعلي في العمل الفريقي
    والمجال العام. وعبر الفلسفة يكون اكتساب للتفكير المنطقي وتعزيز البعد الفكري الشمولي لدى المتع لّم .
    6
    6 – إذا كان الحُكم، في تقويم المادة، يرتكز، فيما يرتكز، على مفاعيل النصوص في تفكير ومواقف المتعلمين، وليس
    العلامة التي يحصّلونها في الامتحانات، فإن ذلك يفرض مسؤولية مضاعفة على لجان تأليف الكتب العائدة للمادة،
    كما على المرجعيات التربوية، لاسيما “المركز التربوي “.
    7
    7 – في عملية تدريس المادة، ينبغي أن لا تطغى التطبيقات على مضمونها، إذْ يُخشى أن يُضعف الإكثار من هذه
    التطبيقات، على أهميتها، من المعرفة الصلبة للمضمون .
    8
    8 – في إطار التعليم العابر للمواد الدراسية-كما فصّلنا آنفًا – يجب تحويل المدرسة إلى مكان رَحب للتربية الديمقراطية،
    أي دمقرطة المدرسة، إذا جاز التعبير !
    9
    9 – قد يكون من الأفضل والأجدى، أن يرتكز تدريس مادة التربية المدنية على المفاهيم وليس الموضوعات، وأن تتّسم
    الدراسة بسمة تكوينية .
    10
    10 – إدخال الثقافة القانونية والأفهمة)أي بناء المفاهيم( إلى المدرسة، بحيث تكون دراسة حالات من المعيش اليومي، بما
    يبتعد بالمادة عن كونها مجرد معلومات، فيُضفي عليها حيوية .
    11
    11 – محو الأمية القانونية وأنسنة النص القانوني، مع معرفة كيفية تقديم الكفايات العائدة للمادة، بالشكل المناسب والفاعل .
    12
    12 – في إجابة عن سؤال: لماذا لم تُفضِ مادة التنشىئة المدنية إلى النتائج المرجوّة، يجب التركيز على المسائل/المعوّقات
    التي تلي، بحيث تكون معالجة لها، في المقام الأول: آليات اشتغال النظام السياسي غير المتطابقة مع الإطار
    الدستوري ولا مع القيم التي بُني عليها الدستور/صلابة الإعداد القبلي عند التلامذة )تأثيرات النشأة العائلية،
    والمؤثرات الدينية، والعادات والتقاليد المتوارثة..الخ(/ضعف التكوين الأكاديمي والتربوي والديداكتيكي لدى معلمي
    المادة، والجسم التعليمي بعام ة .
    13
    13 – لتدريس المادة، لا بدّ من معلّم، متخصّص بالقانون أو العلوم السياسية أو علم الاجتماع، مع إخضاعه لدورات
    تدريب مستمرة، بما يمكّنه من تدريس هذه المادة، بشكل مبتكر ومفيد وممتع. علمًا أنّ البعد الثقافي، لدى المعلّم،
    يشكّل قيمة مُضافة .
    14
    14 – في ظل المشكلات، التي تتعلّق بالحياة الأسرية، التي لا يحصرها عدّ، ينبغي إنشاء “نيابة عامة أُسريّة”، متخصّصة
    بكل ما له علاقة بالأسرة، وبخاصة لجهة حماية الأولاد القاصرين، ف ي حالات النزاعات الزوجية .
    15
    15 – في ظل الفوضى المفاهيمية، ينبغي، بما خصّ المناهج العائدة للمادة، وسائر أدبياتها، توحيد المفاهيم والمصطلحات،
    فيتم إنجاز دليل مفاهيمي، يتمّ اعتماده من سائر المشتغلين بالعلوم التربوية، ومن قِبل لجان التأليف .
    16
    16 – في تشكيل لجان التأليف أو إعادة النظر في المادة، يجب أن يكون أعضاؤها من ذوي الكفاءة، ومن دون الانغماس
    في معادلة التوازنات الطائفية والمذهبية. إلى ذلك، على أعضاء هذه اللجان أن يعقدوا، بداءةً، حلقات
    مدارسة (séminaires) ، بهدف تنقية الذاكرة وبناء ثقة مشتركة بينهم .
    17
    17 – بشأن تطوير المناهج وعصرنتها، يجب إعادة الاعتبار إلى ما أنجزته مؤسسة “أديان”، بالتفاهم مع وزارة التربية،
    وبالتنسيق مع “المركز التربوي”، إذْ خلصت في 29 حزيران 2017 إلى الصيغة النهائية لمشروع، لا زال صالحًا
    لاعتماده. إضافة إلى “مشروع خدمة المجتمع في المدارس”، كمرجع تطبيقي، يفتقر إليه المنهج المعمول به راهنًا .
    18
    18 – تقدّمَ د. نمر فريحة بإقتراح إشكالي، يستدعي نقاشًا معمّقًا، مستندًا إلى المسار الذي سلكته مادة التنشئة المدنية خلال
    قرن من الزمن لدينا، خلاصتُه عدم جعل هذه المادة مادة تُقدَّمُ فيها الامتحانات المدرسية والحكومية الرسمية، كونها
    تحوّلت إلى مادة “حفظ” )تغييب عن ظهر قلب(، على غرار عدة مواد دراسية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى