المقالات

إنقاذ المنصب \ د. قصي الحسين

الناس في لبنان أحوج ما يكونون إلى إنقاذ المناصب ممن يشغلونها. ممن يحتلونها. ممن باعوا كل شيء لأجل الوصول إليها. تماما مثلما يفعل ركاب مراكب الموت في طرابلس. بحيث “لا يصل الحبيب إلى الحبيب، إلا قاتلا أو قتيلا”.

أريد أن لا تستعجلوا الأحكام. أريد أن أسجل نقطة في النظام. أليس المرشحون للمناصب، عنيت: مناصب الفئة الأولى. مناصب الفئة الثانية. مناصب الفئة الثالثة والرابعة والخامسة.إلخ… هم في نفس مستوى ركاب “المراكب الطرابلسية”: عنيت مراكب، بل قوارب الموت. التي تحمل الطامحين. تهربهم وترميهم في عباب اليم.

لا يصل المنصب، إلى المنصب، حتى ولو كان عامل تنظيفات، في دائرة أو شركة، أو وطن يدار مثل الشركات. إلا بعد أن ينتظر كثيرا. إلا بعد أن يجرب جميع الحيل. إلا بعد أن “يدفع”، بحروف “ماجوسكيل”، من ماله. أو من كرامته. أو من شرفه. أو من وطنيته. أو من هويته. أو من عائلته. أو من “جاه الله” و”جاه أهله” الشيء الكثير.

أذكر أنني مرة إشتريت. إشتريت “منصب” إستاذ جامعي. حدث ذلك في مبتدأ العام1977. أرادوا أن يستحدثوا فروع جامعية بطرابلس. لكليتي الآداب والحقوق والعلوم السياسية. ومعهدا للعلوم الإجتماعية.

بعثوا برئيس الجامعة المكلف للفروع الثلاثة، إلى عاصمة الشمال طرابلس، يدير التعينات من دارته في الميناء. والتي هي اليوم دارة “دولة الرئيس المكلف”. إلى غيرها من الدارات.

كان محيط الدار يغص بسيارات الزائرين. تماما كما كنت أرى بأم عيني كيف يغص الميناء المجاور، بمراكب وقوارب الصيادين. صعدت -وكنت فتى في ذلك الوقت- على الدرج الحجري الأثري، الذي يتصيد الزائر “تصيدا”. دارة، بل وكالة على البحر من عمارة القرن التاسع عشر. وبإزائها دارة أخرى مشابهة تماما لها. كلتاهما، تتوضآن بصورة دائمة بموج البحر. يفقش البحر موجه، على الحجر الرملي. وترمي الشمس الظلال في عب البحر، ولا تتعب.

نظرت كيف يدير رئيس الجامعة المكلف شؤون التوظيف الجامعي. من الطربوش إلى البابوج. من الخادم وعامل التنظيفات، والموظف الإداري، حتى الأستاذ الجامعي. رأيت كيف تتقدم منه الوفود. كيف يجلس رئيس الوفد القادم إليه بالتهليل والتكبير والتبريك، إلى الميمنة. وكيف يكون عديد أعضاء الوفد العظيم إلى الميسرة. كيف يتهامس رئيس الوفد الأمي، إلى الرئيس الأكاديمي الجامعي. يتهامسان على منصب. كيف يتهامسان على رأس زبون. عرفت وشاهدت الزبائنية الصريحة بأم عيني. وشهدت على تقاسم الحصص الصراح. بالمحسوس الملموس

كنت إلى صديقي الصغير( المجرب). المتعاون مع “حزب طاحش”، وحدنا. كان أصغر مني سنا. ولكني كنت أكثر منه يقظة. كنت أرى بأم عيني الوفود، التي تأتي لطلب الحصص. وطلب الخدمات. وطالب المحاصصة في الخدمات. فلمعت بذهني المحاصصة، والجماعات العشائرية والحزبية والطائفية والمحلية التي وراءها. والتي قدامها. والتي عن يمينها. والتي عن يسارها. حتى ولو كنت في أرقى الأكاديميات. همست في أذن صاحبي: “قوم نفل”. ما لنا محل. بها “الشغلة”.

ودعت صاحبي. وذهبت على الفور، إلى باب التبانة، حيث الأهل والعشيرة. حيث قومي القادمون من قرى الريف المجاور. ذهبت إلى الشارع. حيث أنتمي. ثم عدت بموكب من سيارات الأغوات والبكوات. أحصيتها فبلغت العشرين. “نزحت” موقف قريتي من السيارات. وعدت بالأغوات والبكوات، نطلق الزمامير، إلى الرئيس المكلف بالتعيينات. دخلت على رأس وفد من خمسين عباءة مقصبة. تعلوها خمسون كوفية من تلك التي كان يلبسها الملك فيصل الأول، ملك بلاد الشام. بعد الحرب العالمية الأولى.

يا للهول. كيف شقوا لنا الطريق، إلى الرئيس المكلف. جلست إلى جانبه، أبوح له بطلب ساعات تدريس في الفرع المستحدث للآداب. وإلى جانبي كبير البكوات. لا زالت كلماته ترن في أذني: يا بيك- كان الرئيس المكلف حقا من البكوات- ما عنا غير “ها الزهرة”. “عطيها محل”. عطيها حقها. حتى نشم ريحتها. عندنا في القرى.

قلت في نفسي: من أين جاء له كل هذا الشعر. خرجنا. وخرج الرئيس المكلف في وداع الوفد. نزل معنا الدرج، إمعانا في تكريم وفدنا. وكنت أرى إسمي على لائحة المعينين في الصباح. وكنت أرى إسمي مشطوبا من لائحة التعيينات في المساء. حتى بلغ السيل مني الزبى. فكانت الساعات الثلاث للتدريس في الجامعة. بعد توقيعه على اللائحة ب”توقيعين”. فأدركت معنى قول أمير الشعراء: ” وما نيل المطالب بالتمني/ ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”.

نعم لا أريد أن أسترسل بفضائح المنصب في المناصب. فهناك جروح وآلام كثيرة، بحيث لم يبق من جسدي، كما قال خالد بن الوليد بطل الردة وبطل اليرموك: “إلا وفيه طعنة من رمح، وضربة من سيف. وتراني اليوم أموت على فراشي مثل البعير.”

إنقاذ المنصب من المنصب، هو أكثر من ضرورة وطنية في هذة الأيام، بعد نصف قرن من الزمان. إنقاذ المنصب من البائعين والتجار. إنقاذ المنصب من لاعبي “الثلاث أوراق”. من باعة الهوى. إنقاذ المنصب من المماكسين. ومن المراهنين. وليست ساحة النجمة اليوم في عهدة الرئيس، أخي دولة الرئيس أبو مصطفى، هي “ساحة سبق”، لربح المراهنين وخسارة الخيل. فليذهبوا إلى ميدان سباق الخيل، وليحققوا مقامراتهم ومغامراتهم ومؤامراتهم هناك. وليجلس المراهنون، وأمامهم جيادهم المنهكة من شدة الضرب. وخلفهم قومهم الذين يهيصون مثل جماعتي، لنيل ساعات ل”زهرتهم” التي سحقته الأقدام عند وروده “المورد العذب.” (الماء العذب).

الإنتصار للمنصب، هو أهم ما في هذة الإنتخابات الرئاسية اليوم. فهل يخرج المراهنون في بهو البرلمان، بحسابات جديدة. فينتصروا للرائد الذي لا يخذل أهله: فلا يبيع وطنا بأمه وأبيه. ولا يبيع شعبا. ولا يتنازل عن كرامة وطنه، مهما تكاثرت الأقدام على المورد العذب. تلك هي المسألة.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى