المقالات

سؤل الأدب \
د. قصي الحسين

في معاجم اللغة، السؤل هو الحاجة والأمنية. وأما سؤل الأدب، فهو حاجته وأمنيته. فهل للأدب سؤل يومي. حاجة يومية. كما للإنسان عادة.

ما دام الأدب هو الوجه التعبيري للإنسان، فإن له سؤله اليومي، مثل سؤل الإنسان اليومي. فمنذ الولادة، يخرج الإنسان إلى الحياة، متحدا بصوته. يتقمص ثنائيته: وجهه وصوته. أو بمعنى آخر: وجهه المادي، وصوته التعبيري، عن وجهه المادي. هكذا ينمو الإنسان وهكذا يعظم ويتدبر، ويتطور، متدثرا بهذة الثنائية، التي تشف في جميع ثواني زمنه، عن المادة والمعنى. أو عن المادة ورمزها، بإعتبار أن القول، أن الصوت هو وجه المعنى، أو بإختصار شديد، وجه الوجه. فيعيدنا البحث عن الإنسان، إلى ثنائيته: الوجه، ووجه الوجه. أي الإنسان وصوته. أو الإنسان ومعناه. أو المادة والأدب. ولهذا، تنشأ في برهة الولادة: الطفل: سؤلا ماديا. والصوت، سؤلا أدبيا. فيتعايش السؤلان، ويسيران معا. يكملان معا دورة الحياة. ثم لا يلبث أن يختفي السؤل المادي. بينما يتابع السؤل الأدبي دورانه مع الكوكب. يصبح بالتالي سؤل الكوكب، بعد أن كان زمانا، سؤلا لصاحبه: عنيت سؤلا للإنسان. وقد جسد الشاعر القديم هذا المعنى، حين قال:
الخط يبقى زمانا بعد “صاحبه/ وصاحب الخط تحت الأرض مدفون. “

السؤل الأدبي عادة ما يدور في فلك سؤل الإنسان، الذي يعمل ليله ونهاره، للإجابة أيضا عن سؤل الكوكب. وحين يغيب الإنسان يموت. يختفي، يظل سؤله الأدبي، يدور حول الكوكب، ما دام الكوكب يدور. وحين يختفي الكوكب أيضا، ينطلق السؤل الأدبي إلى موقعه الجديد. بإعتبار أن السؤل الأدبي، لا يجري عليه الزمن، كما يجري على الإنسان. لأن الأدب من النوع الذي يسيل مع الزمن، ولا ينقطع عنه. ما دام للزمن سيولته الدائمة.

يتأسس سؤل الأدب، على سؤل الإنسان. يلدان معا. و ينشآن معا وحين يفنى الإنسان، ينتقل السؤل الأدبي ليكمل حياته في الزمن. فيعظم معه. ويتطور معه. ويصبح ثنية مهما كانت ضئيلة أو دقيقة، من ثنايا الزمن. وهذا هو الجانب الذي يعنينا من البحث. إذ لولا إلتحام الأدب بالإنسان من قبل، وبالزمن من بعد، لما كان للإنسان كل هذة الشهية في الكلام. كل هذة الشهية في التعبير. فوجه الإنسان إن كان حقا، تعبيرا بسؤله المادي، فهو تعبيري أيضا، بل ربما أكثر تعبيريا، بسؤله الأدبي.

ومثلما يجري الإنسان يوميا باحثا عن سؤله المادي: عملا و غذاء ودواء، من خلال حركته الجسمانية، فإنه يجري أيضا، وبصورة يومية، باحثا عن سؤله الروحي، في أي مكان، وفي أي زمان. يستكمل حركة الجسم، بفعلها الروحي فيه. يستكمل دورة الروح بالصوت، منتصرا لسؤل الإنسان المادي.

إذن، أصل السؤل الإدبي، واقع في أصل السؤل الإنساني. وهو تتويج لمسيرته الإيقاعية في الحياة. إذ كما لا يخلو إنسان من ماء، فهو لا يخلو، وبالمماثل من أدب. إذ السؤل الأدبي، إنما يأتي تلبية لحاجة الروح التي تسكن البدن. سؤل البدن، سؤلان: سؤل المادة، وسؤل الروح التي تعيش في قوقعتها، هانئة، آمنة ، مطمئنة إلى غدها. وقوقعة كل إنسان، إنما هو بدنه، جسمه. إنما هو كهف الروح، التي يأويها. فتعيش في كنفه، كما يحلو لها. بل كما يمكن أن تكون، من خلال ثواني البدن والروح.

سؤل البدن: حاجات لا تنقطع عن رفده بالطاقة. من مأكل ومشرب وصحة وتعليم وحياة وهناء. وكذلك سؤل الأدب: حاجات لا تنقطع عن رفده بالطاقة، من تفكر وتأمل ووعي وتعلم وتدرب وعناء. وفارق البدن عن أدبه، إنما هو نوع من فارق الهناء عن العناء في الحياة. فنرى البدن يشقى يوميا لأجل الهناء. ونرى أدبه، يشقى يوميا لأجل العناء.

البدن يطلب الهناء يوميا. يكد سحابة عمره، ليحقق الهناء. أما أدبه، فهو يطلب العناء يوميا. ويكد سحابة عمره معنى، ليحقق العناء. ليزيد العناء عناء، حتى النفس الأخير. وهذا هو سؤل الأدب، في عظيم تجلياته. بل في أعظم تجلياته، بل في معظم تجلياته في حياة الإنسان. لأن الأدب صنو الإنسان. ربما يستريح. ربما يغادر. ربما يعود من جديد.

سؤل الأدب إنما هو، سؤلان متحدان في سؤل واحد: الشكل والمعنى. صنو الجسم والروح. فبقدر إقتحام القلاع يوميا، بقدر الإنتصارات المحققة، في الإقتحامات اليومية للقلاع، يمكن لنا آنئذ، أن نقع على سؤل الأدب العظيم. لأننا لا نبحث إلا عن سؤل الأدب العظيم. وأما سؤله السخيف، سؤله الخفيف، فهو من بنيات الطريق.

سؤل الأدب، طموح للغاية. بل له من الرقي، ما يجعله يرقى، ثم يرقى، حتى يحقق للأدب عظمته الخالدة، والتي بإمكانها أن تتكثف وترق، لتسيل من بعد الإنسان، من بعد صاحبه، في الزمن.

الأدب معنى بصاحبيه: الشكل والمعنى. وهو في رحلة دائمة لإختراق السقوف. لأن للادب وظيفة عليا لا يدركها إلا الإنسان الشقي به، وهو إختراق السقوف. لأن كعبة الأدب الحقيقي، لا سقف لها. وليس عليها،كاهن، أو أسقف، يحرسها، مثل سائر كعبات العرب. فسؤل الأدب، في جوهره، إنما يكمن في الإختراق، في التجاوز، في بلوغ المستحيلات، التي تبدو عصية عن البلوغ. سؤل الأدب كما هو، في حقيقته وواقعه، سؤل الإنسان الدائم عن جوهر الأدب، في مستودع زيوس. سؤل دائم عن وديعة زيوس في مهبطه على جبل الأولمب.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى