المقالات

ذات النعلتين \ د. قصي الحسين أستاذ في الجامعة اللبنانية

تحت مطر مونبلييه، كنت في الترام، أنتقل منSainte Cathrine إلى Odysseum. صعدت فتاة، في مقتبل العمر من إحدى محطات الطريق، وبيدها “جزمة” شتوية، صالحة للإنتعال بها تحت المطر الشديد. لفتتني حقا، هذة الفتاة الشابة، لأنها لم تكن تحمل حذاء جديدا. وليس هو من مشتريات السوق. فقط، حملتها من البيت. كانت قد أعدتها، لنزولها من الترام تحت المطر المنهمر بغزارة. إذ رأيتها تسرع لإستبدال حذائها الرياضي وإنتعال “الجزمة” بدلا منه، لأنها أصلح للدوس في جداول الماء الجارية على جانبي الطريق.
فكرت جيدا، بأسلوبها العملي في مواجهة طريقين: طريق الصحو، وطريق المطر. إذ أعدت هذة الفتاة الناشئة لكل طريق نعلته المطابقة له. لأن الطقس فرض عليها التفكير، بثنائية الطريق، فواجهته على الفور بثنائية الحذاء.

لا أجامل، ولا أشاكل، ولا أستهتر، ولا ألابس الحقيقة في شيء إذا ما قلت: إن هذة الفتاة كانت قد علمتني درسا مهما. كانت معلمتي حقا في ضرورة إستخدام الثنائية في مشوار حياتنا الطويل. ثنائية الطرقات مثلا: طرقات الصحو، وطرقات الأمطار. و أيضا ثنائية اللغة. وكذلك ثنائية العمل. و ربماثنائية المنزل. و في الأغلب العم،ثنائية العقل. وغير ذلك من الثنائيات، التي تلزمنا، فتلازمنا، دون أن ندري بقانونها الطبيعي.

حقيقة،إعتدنا على ثنائية اللغة في المدارس. وصار الأمر إلزاميا في التحصيل المدرسي، وبعده في التحصيل الثانوي والجامعي. ذلك أن الشاب الثنائي اللغة أسهل له، في الحصول على عمل. فما بالك إذا كان ثلاثي اللغة ورباعيها.

وإعتدنا كذلك في زمننا هذا، أن نرى الشخص متعدد العمل. فحاجات الحياة الكثيرة، والمتكاثرة دوما، بتطور الحياة، فرضت عليه أن يعمل مدرسا في النهار مثلا، ومدققا في دور الطباعة، ودور الصحافة، ودور المؤسسات، التي تتطلب وظيفة التدقيق في منتوجها من أوراقها الكثيرة.

وأما ثنائية المنزل، فهي قديمة في حياة الناس والمجتمعات. كانوا يتخذون لهم المشاتي، في فصل الشتاء، كما يتخذون المصائف في فصل الصيف. وربما إتخذ أهل القرى، المرابع، في فصل الربيع والخريف. وقد إعتاد الناس الذهاب لهجرة المدينة في الصيف، والإلتحاق بالريف، وبالجبل وبالبيوت الصيفية. وبالمصائف على وجه العموم. وقد إختصت قرى بعينها، على أن تكون من المصائف. فيقصدها الناس، بعد إن يخلعوا عن أنفسهم حياة المدينة، ويلتحقوا بالمصائف. حتى أن أجمل قرية في الصيف، كانت تسمى عروس المصائف. وكان أهالي زغرتا في شمال لبنان، ما أن يبشر الصيف بالقدوم، حتى يلتحقوا بقريتهم الأخرى، إهدن. حتى أن البلدية قد عرفت، في هاتين القريتين، أنها ثنائية القرية. فهي بلدية واحدة لقريتين متباعدتين. والمسافة بينهما ليست قليلة. فهي تناهز الأربعين كلم، أو ستين ميلا وأكثر، على سبيل الترجيح، لا على سبيل اليقين والتدقيق.

أخلص من كل ذلك للحديث عن ثنائية العقل وثلاثيته ورباعيته، في زمننا الحاضر. وذلك لإختلاف العقول في العالم: ما بين عقل شرقي، وعقل غربي. وما بين عقل أسيوي وعقل إفريقي. وما بين عقل أوروبي وعقل أميركي. وإذا ما دخلنا في التفصيل الممل، فيمكن لنا الحديث عن عقل التاجر. وعن عقل السياسي. وعن عقل الأم وعن عقل الأب. وعن عقل المدني، وعن عقل العسكري. وعن عقل إبن المدينة، وعن عقل إبن القرية.
وقد صنف الجاحظ في كتابه الموسوعي: “الحيوان”، وهو يقع في سبعة أجزاء، أصحاب العقول، فوجد أهمها، عقل القائد، وثانيها عقل السياسي. وثالثها عقل التاجر. ورابعها عقل الكاتب. إلخ… وجعل عقل المدرس، آخر العقول رتبة، لإتصاله اليومي بعقول الأحداث، وتأثره بها. وهذا واضح من رسالته المعروفة ب”رسالة المعلمين”، وفيها يسخر الجاحظ منهم أشد السخرية.

إحتجت في إقامتي في مونبلييه، أن أكون ثنائي العقل. ذلك أنني وجدت نفسي بنفسي، ضرورة التدرب والتعلم من العقل الغربي، أو إذا شئت القول من العقل الأوروبي، وإذا ما أردت التخصيص أكثر، فقل من العقل الفرنسي.
وجدت ضرورة لفهم تقديم “السنيور” على غيره في الحافلات، بدل الهزء والسخرية منه. فهم يوسعون له، للجلوس. ترى الشابات قبل الشباب، ينهضن عن مقاعدهن، لتقديمها له. ترى شاشات التلفزة، لا تهتم كثيرا برجال الدين. ولا توثق لهم لقاءاتهم وخطاباتهم. ولا تهتم بالسعي وراءهم لأخذ حديث، أو لإلتقاط صورة لكاهن. أو لرجل دين، إلا إذا كان في مهمة هامة. أو في مناسبة عامة.
كذلك الأمر، ما وجدت على الشاشات مطلقا، صورة لرجل عسكري، مهما علت رتبته. ولا لموظف مدني، مهما كانت وظيفته. ولم أر أبدا صورة نائب أو وزير، يصرح عن دولته، إلا في إجتماعات دولية. أو في مناسبات وطنية، كلف الحديث فيها.
ترى الفرنسيين يهتمون بعرض إحوال الناس، على الشاشات الصغيرة، في الكوارث. وفي الأسواق وفي المعامل وفي الطرقات وفي المدارس. تراهم يهتمون بالحديث عن الصناعات وعن الزراعات، وعن ألوان الأسواق الأخرى، في البحار وفي الجبال وفي المدن وفي الأرياف. ولا أبالغ إذا ماقلت، أنهم يهتمون بالحديث عن “سعر البندورة” في موسم الشتاء، أكثر من الحديث عن الكتل السياسية في مواسم الإنتخابات.

أنت خارج لبنان، تحتاج إلى خلع شاشات التلفزة اللبنانية، بكل ما تعرضه، من مادة إعلانية أو مادة إخبارية، أو مادة سياسية، لا لأنها تخص هذا الفريق أو ذاك، بل لأنها لا تخص حياة الناس، في يومهم ولا في معاشهم. أنت تحتاج إلى خلعها من عقلك، لأن لا محل لها في مكانك. وإلا وجدت نفسك، خارج المكان، وخارج الزمان.
أستحضر في ذهني، كل يوم صورة هذة الفتاة الفرنسية، التي إستقلت الBus معي، وهي تتأبط نعلتين، لإستبدال نعلتها حين النزول من الحافلة، تحت المطر، للسير في جداول الماء. علمتني ذات النعلتين، أن أكون ثنائي العقل. أن أخلع من عقلي، حيث إنا، ثقافة الشاشات اللبنانية، وأنصرف لحياة الناس اليومية. أفكر فقط، فيما يليق بي التفكير به، في بلد ينصرف بالكلية للإهتمام بحياة عموم الناس. وليس بأي شيء آخر، يدخل في حسابات القلة من الناس.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى