التحقيقات

“خان التماثيلي” قصص العيش المكتوم بالفقر والعوز

الصدفة هي التي جمعتني بها في سيارة أجرة كان من المفروض ان تقلّني الى منزل صديقتي شيرين في منطقة الميناء. كانت تجلس بقربي إمرأة طاعنة في السن، ترتدي عباءة سوداء وتحمل معها عدة  أكياس مليئة بكرات الصوف والسنانير. “ام خالد” (كما عرفت لاحقا كنيتها) طلبت من السائق ان يأخذها الى “خان التماثيلي” الذي لم اسمع به مسبقا أو اعرف شيئاً عنه.
سألتها عن الخان بداعي الحشرية، وما إن سألتها حتى بدأت الكلام من دون توقف مؤكدة لي ان الخان  في كوكب آخر غير الأرض.
ثمّ أخبرتني ام خالد عن أولادها العشرة وعن تفاصيل حياتها اليومية في الغرفة الضيقة التي تكاد لا تسعهم. الفتيات يرتدن المدرسة، أما الصبية  فيعملون في بيع الذرة والقهوة على شاطىء البحر.
ما روته “أم خالد” لي عن الخان دفعني الى مرافقتها  وتأجيل زيارة شيرين.ما لإن وطأت أرض الخان حتى توضحت لي الحال. انه مؤلف من طبقتين، الأولى مأهولة بالأوساخ ومياه الصرف الصحي، أما الثانية فتحوي ثلاثا وأربعين غرفة، ويقطن فيه ثلاث وعشرون عائلة تقريبا، هم خليط من الجنسيتين اللبنانية والسورية، ولكن الأكثرية من الجنسية اللبنانية كماعلمت و يعمل معظمهم في عرض البحر، ويرتزقون من صيد السمك.
التقيت هناك بـ أمينة الرفاعية “أم عبدالله”(42 عاماً)، بائعة عصير الليمون والتفاح، والتي تضع بسطتها أمام باب الخان، إمرأة قوية مكافحة، تتحدى الأيام بصلابتها، أخبرتني عن زوار الخان الذين ينهالون عليهم بالوعود بعد تقرير صحفي أو تلفزيوني يقومون بتنفيذه، وفي كل مرة يتفاءل الأهالي على أمل التغيير، ولكن الحال يبقى على ما هو عليه.
أم عبدالله لديها احد عشر ولداً، تعمل قبل الظهر في تنظيف مخفر الميناء، وتعود مسرعة ومرهقة الى مكان عملها الثاني لبيع عصير الفاكهة على البسطة المهترئة وتحاول ان تدخر المال لشراء الثياب لأولادها وخاصة البنات. بصوت مثقل بالقهر تقول ام عبد الله  “الفقر يمكن التعايش معه، ولكن من الصعب تقبل الأوساخ التي يغصّ بها الخان”.  
أكثر ما يزعج ام عبدالله هوتسرب مياه الصرف الصحي الذي يؤدي الى إصابتهم بالأمراض. وحين يمرضون لا مال ولا دواء يسعفهم. تقول بحسرة أن أقرباءها الذين يقطنون خارج الخان لا يزورونها بسبب الروائح الكريهة المنبعثة من النفايات، وتشدد أن لا أحد من المسؤولين يحس وجعهم أو يتطلع الى انتشالهم من الخان.
في زيارتي التقيت أيضا  بالحاج علي العبدالله (71 عاماً) رجل يدفن جسده المنهك في كرسي عتيق أمام مدخل الخان. يعمل في محل لبيع الحمص والفول، لكنه بسبب عملية القلب المفتوح التي أجراها مؤخراً، توقف عن العمل. أبو احمد يروي حكاية المطالب التي حملها على عاتقه قاصداً رئيس القصر البلدي و المسؤولين مؤكدا أن رئيس البلدية السابق عبد القادر علم الدين إستجاب لمطالب الأهالي بما يتعلق بتحسين مشكلة الصرف الصحي فجدّد لهم الأنابيب التي ما لبثت أن ثقبت وغرقت أرض الخان من جديد في المياه الآسنة.
أبو أحمد لا ينكر الوعود التي تنهال عليهم مثل أمطار الشتاء. ويقول “في الوقت الحالي البلدية ترسل كل صباح من الساعة السادسة حتى التاسعة صباحاً عاملاً لينظف ما يمكن تنظيفه”. ويعود بي  إلى الماضي، أيام المالك “أنور الخانجي”، فيشبه تلك الأيام بالمسلسل السوري الشهير”باب الحارة”. حيث كان الخان كمملكة ساحرة تسطع بالنظافة والجمال. يقول: كان الباب الكبير، الذي إهترأ مع الزمن، يغلق ويمنع دخول الأغراب. وكانت الأحوال ميسورة والسعادة تملأ النفوس”. أبوأحمد لم ينكر مساعدات السياسيين الطرابلسيين، لكنه يردد بثقة بأنه لم يعد هناك امل في إعادة الخان كما كان ويلوم بشدة سكانه دون أن يستثني أحدهم لأنهم السبب الاساس في التعدي على جمالية الخان وقيمته التاريخية.

استأذنته في الصعود إلى الطبقة العلوية. كان الدرج مغطىً بالأوساخ. صادفت فوق الحاجة سعاد(58عاما) المتسمرة على عتبة غرفتها، وحولها أحفادها تراقبهم بملل، تطير بنظراتها من مكان إلى آخر. تحلم ان تعيش في مكان واسع يغرق بنور الشمس يكون لها وحدها حتى لو بلا جيران يؤنسون عمرها المتبقي، تتأمل بما تسمعه من أقوال حول شراء الخان وإعطائهم التعويضات اللازمة لإيجاد مسكن مناسب، فقد سمعت أن سعد الحريري كان يريد شراء الخان وإعطاء كل عائلة مبلغاً قدره خمسة وثلاثون ألف دولار أميركي، ولكن هذه القضية دخلت متاهة المحاكم بشأن التخمين وكغيرها لم تخرج.
أثناء تجوالي في الخان التقيت  بشبان وصبايا يجلسون مجموعات يعملون على ربط حبال لشباك صيدهم، من بينهم رقية (14 عاما) التي تركت المدرسة لتعمل في تحضير الشباك. الأولاد يركضون في فرح بريء، يلعبون يمرحون يصرخون غير عابئين بكل ما حولهم وكأنهم في عالم لا يخلقه سواهم.
أحلام(7 أعوام) جسدها نحيل. ترتدي قبعة صفراء صوفية تحلم أن تخرج من الخان، وتنام في سرير دافىء وأن تفتح النافذة عند الصباح وتستنشق هواء نظيفا.
أما مروان الحبيب(24عاما) فهو سوري الأصل ولكنه “تجنس” في لبنان في عام 1992. مروان يعمل في البحر. يملك مركباً ويعمل أيضاً بائع “بليلة”، وضعه المعيشي جيد كما يصف، وهو يستعد للزواج قريباً وسيشتري منزلاً جديداً في منطقة مشرقة من أجل أولاده مستقبلياً. أخبرني مروان بأن الجميع في الخان، بعكس ما لامسته في وجوههم، أناس سعداء ولا يتمنون الخروج منه وأوضاعهم جيدة وتأتيهم مساعدات كثيرة. هذه وجهة نظر بالنسبة اليه.
السكان منذ عقود يدفعون الإيجار لأصحاب الخان الأصليين “آل الخانجي” ( إن الخان كان ينتقل كل خمسين سنة إلى ملكية عائلة، حتى وصل إلى عائلة آل الخانجي)، ولكنهم توقفوا عن الدفع بسبب قرار البلدية بإعداد مشروع إستملاك الخان ودفع التعويضات للسكان و تحويله إلى مكان تراثي وفندق. وطبعا المشروع لم ينفذ بسبب عدم توفرالتعويضات.
أما عن تاريخ الخان فقد أخبروني أنه بناء مملوكي بني في القرن الرابع عشر. وهو مصنف ضمن الأماكن الأثرية منذ عام 1985.  بناه المماليك لإستقبال البواخر، ومع  دخول العثمانيين الى طرابلس، دخل الخان في ملكية السلطان سليم الأول، فوضع يده على خانات طرابلس ومن بينها خان التماثيلي،  وكان السلطان في تلك الأيام يمنح إيرادات الخان لأخص نسائه. لهذا عُرف أيضاً، بوقف خاصكي سلطان.
رشا رستم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى