التحقيقات

طرابلس وكتاب صحيح الإمام البخاريِّ وآلة الزَّمن ….كتبت الإعلاميَّة : رندا عبد الله منقارة

من قال أنَّ الزَّمن لا يعود؟؟ ها هو قد عاد وسطَّر وقفة تاريخية جليلة، وحفر للصَّادقين موعدًا في طرابلس الشَّام، عادت بهم لأيَّام المماليك… فدخل الجميع هنا في آلة زمنيَّة بعيدة، كُتب فوق بوَّابتها القديمة: «طرابلس مدينة العلم والعلماء».
وفود مسرعة وأرجل تحثُّ الخطى من المحدِّثين، والعلماء، وطلَّاب العلم، وطلَّاب الأحاديث الشَّريفة، تراكضوا من كلِّ مكان، وفكُّوا كلَّ الارتباطات خدمةً للحديث وأهله، وتعلمًا للسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة في أيَّام قليلة تحسب لهم عند الله إن شاء سبحانه.
إنَّ ٱخر مرَّة اجتمع فيها مثل هؤلاء المحدِّثين، ومن حيث عددهم وتنوُّع مشاربهم، كان حوالي سنة 853 هجريَّة، وكان ذلك في المدرسة الظَّاهريَّة بالقاهرة.
أيَّام قراءة (صحيح الإمام البخاريِّ) كانت أيامًا معدودة خاطفة، تغيَّرت معها صباحات ومساءات الحاضرين جميعًا: وقتًا وحضورًا واندهاشًا وسماعًا وتعارفًا بين النَّاس… لقد كان طلَّاب العلم من أقطار الدُّنيا كلِّها: سوريا، العراق، فلسطين، البحرين، السعوديَّة، اليمن، مصر، موريتانيا، باكستان، الهند، المغرب، ماليزيا، أندونسيا، تركيا، غانا، بريطانيا، كندا، أمريكا، وغيرها… أضافوا على المدينة أرواحًا جديدة، كانت سببًا في إضافة سكينة هائلة خيَّمت على طرابلس بسبب تنوع واختلاف وتلاقي الأرواح وأسرارها… ناهيك عن الضُّيوف من مناطق لبنان المختلفة حضورًا ومبيتًا وطلبًا للاستزادة من الحديث النَّبويِّ الشَّريف…
كانت أيَّامًا خارج الزَّمان والمكان… وكان المحدِّثون الذين جاؤوا من مصر وباكستان واليمن والمغرب وسوريا وبريطانيا مع إخوانهم من لبنان قد هزَّتهم حلاوة اللُّقيا بأحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإخوانه الذين اشتاق لهم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ففتحت ثانويَّة روضة الفيحاء أبوابها مستضيفةً هذه الجمهرة العالية من أهل الحديث ومحبِّيه، فكان كلُّ كادرها الإداريِّ، والوظيفيِّ، والخدماتيِّ، والتَّجهيزات، والتَّنظيف، والتَّنظيم، والتَّرتيب، مِطواعًا لخدمة هذه الغاية الشَّريفة؛ ومن مثل ثانويَّة روضة الفيحاء وجمعيَّة مكارم الأخلاق لنيل شرف إنبات بذور الحديث النَّبويِّ في طرابلس؟
كانت أيَّام عرس تسعة، شهدنا فيها سماع أحاديث صحيح الإمام البخاريِّ كاملة، واستعرضنا صورًا عن بخارى: مساجدها، مدارسها، قببها، حرف ناسها فنقشت في الذَّاكرة وتعمَّقت.

كان ذلك السِّرُّ ساريًا بيننا بركة وإعمارًا للوقت ، بسرِّ تلك الأعمال الصَّالحة، ونحن نأمل من الله سبحانه أن ينظر نظرة رحمة واستجابة إلى شخص واحد من المئات التي اجتمعت حول حديث حبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم حضورًا، فما بالك بالآلاف الذين حضروا عبر الانترنت… وكأنَّنا خرجنا من زمننا هذا، وعدنا لزمن الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم، وهم يروون الأحاديث ويسندونها كابرًا عن كابر… أيَّام نسينا فيها بيوتنا ، انشغالاتنا اليوميَّة، روتين حياتنا الكئيب، وغدونا كأنَّنا في عرس يوميِّ وانشغال بليلة الختم العظيم…
العروس، وما أدراك ما العروس! إن هي إلَّا أخبار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم! فانبسطت الأسارير، وتنوَّرت الوجوه، ولمعت العيون، فكلُّ من دخل هذا العالم أصابته نفحة ربانيَّة جعلته يقدِّم أغلى وأجمل ما عنده من نفسه، إجلالًا وتعظيمًا لمن لأجله اجتمعنا على سنَّته!
كان هذا الاحتفال الكبير بكتاب «صحيح الإمام البخاريِّ» حدثًا جعل الكشَّاف المسلم يؤدي التَّحيَّة للضُّيوف في مدخل ثانويَّة روضة الفيحاء وينظِّم دخولهم، وشباب كشاَّفة الإيمان في تنظيم جلوس الضُّيوف في القاعة المنشودة، والجمعيَّة الطِّبيَّة تخصِّص سيَّارة إسعاف تحسبًا لأيِّ طارئ؛ وتضافرت الجهود مع جامعة طرابلس، حيث استضافت بعض العلماء وطالبات العلم في أقسامها الدَّاخليَّة، وفتح جامع طينال أبوابه لمبيت الرجال بمتابعة من دائرة الأوقاف الإسلاميَّة ومتابعة حثيثة من سماحة المفتي الشَّيخ محمَّد إمام حفظه الله، وتأمَّنت الوجبات اليوميَّة، للزُّوَّار الأكارم، وكانت عملية الدُّخول للمسرح عبر المسحة الالكترونيَّة زيادة في الضَّبط والتَّنظيم.
لك أن تتصور كيف توقَّفت أكثر دروس الحديث المباشرة عبر الانترنت حول العالم، وتصوَّبت الأنظار والقلوب والعقول بالآلاف لمتابعة ما يجري في طرابلس مدينة العلم والعلماء بحقٍّ، حتَّى غدت طرابلس – لأيَّام قليلة – ساعةَ الحديث النَّبويِّ الشَّريف، تدقُّ على وقعها قلوب المشتاقين حول الدُّنيا للرَّسول وأحاديثه، مستبشرة بما تسمع، وراجية عدم انقطاع البثِّ لما يحصل عندها من الخير؛ وقد طالبت أصوات كثيرة بإكمال وإتمام هذا البثَّ عبر النت لجميع الكتاب، إذا كان العمل احترافيًا بالفعل.
إنَّ كتاب «صحيح الإمام البخاريِّ» قُرئ في العديد من دول العالم، لكنَّه لم يأت على هذه الصورة البدريَّة قط! إذ لم يسبق أن اجتمع ثلَّة من أئمَّة الحديث المعمَّرين وهذا العدد الكبير من العلماء والمسندين في مكان ما خلال هذه القرون المتأخرة، مثل الشَّيخ المقرئ عليٍّ النَّحَّاس من مصر، والشَّيخة صفيَّة الأهنوميَّة من اليمن، وهذا الأمر يضنُّ الزَّمان بمثله!
لا يعتقدنَّ أحدٌ أنَّ من حضر هذا الاحتفال، أو اللِّقاء، أو المؤتمر، سمِّه ما شئت، هم من لون واحد أو مشرب واحد؛ لقد كان الكلُّ مهتمًا بأمر الحديث، مساقًا بفطرته وحبِّه وإيمانه للتواجد مع كلِّ الفئات بلا استثناء، ودون أيِّ جفوة أو بُعد أو تفكير مسبق! فأصبح كسر الجليد، وسهولة الوصول للمشاركة بهذا الحدث العظيم دلالةً على روح المسلم الفطريَّة الحقيقيَّة، وكأنَّ يد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسحت على القلوب، وبلسمت الجراح، وشدَّت أواصر المحبَّة والتَّسامح.
تلك الرِّعاية الرَّسميَّة المتمثِّلة بدار الفتوى في طرابلس والشَّمال بشخص سماحة المفتي محمَّد إمام، وحضور أمين الفتوى في الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة الشَّيخ أمين الكرديِّ، ونزوله طرابلس، في أيَّام مباركات في حضور يوميٍّ على المنصَّة، مشاركًا ومنبهًا وملاحظًا، تزيد في حسناته إن شاء الله. وأمَّا الشَّيخ محمَّد إمام، فلله درُّه على محبَّته تقريب المسافات وجمع الناس على الخير، ألا وهو نشر الحديث الشَّريف وتكريم أهله ، في زمن تستهدف فيه السُّنَّة الشَّريفة وهي الأصل الثَّاني للتَّشريع.
أذكر ليلة ختم الكتاب، وقد غصَّ المسرح بما يفوق ٦٥٠ شخصًا من مختلف الفئات العمريَّة، ونرجو الله سبحانه أن يكون وقتًا قد استجاب فيه الدَّعوات، وتنزلت فيه الرَّحمات، ورفعت فيه الاستغاثات له سبحانه… خشعت القلوب، وذابت الأجساد في مقاعدها، وما عدت تسمع إلَّا صوت الدَّاعي وكلمة آمين؛ أيقنتُ وقتها بالتَّجلي، وأنَّ لله خصوصية في الأزمان والأماكن والأشخاص…
إنَّ هذا العمل الشَّريف لدار الأثر الطَّرابلسيَّة قد أذهلنا حقًّا، وكانت أصداؤه عالمية، وقد وصل المشروع لأهدافه – والحمد لله – في جمع عامَّة المسلمين دون حزبيَّة أو تفرقة، وفي رفع ونشر أصحِّ كتاب بعد كتاب الله سبحانه وهو «صحيح الإمام البخاريِّ»، رفع الله قدرها، وجعلها في خدمة الحديث الشَّريف وأهله والمسلمين دائمًا، فليس بعد ذلك شرف، وليس بعد ذلك عزٌّ، راجين الله لها حسن القبول، ومنتظرين منها مثل هذه المشاريع الكبيرة التي تتعطُّش لها بلادنا.
وكتبت الإعلاميَّة : رندا عبد الله منقارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى