ثقافة

عَبْرِالكِتاب/السفر ” من كل واد ٍ صدى”* سابا زريق يشهد ُ لزمن ِ لبنان القلِق ويُسفر عن نزوع أكاديمي وعن مُتأدِب مُبدع! د. مصطفى الحلوة رئيس الاتحاد الفلسفي العربي َ

مدخل/كتاب ٌ عميقة ٌ موضوعاتُه ُ عُمقُالوديان وضاجَّة ٌ تردُّداتأصدائه:
في الهزيع الأخيرمن العام المنصرم، ومن على منبر “مركز الصفدي
الثقافي”، جاءنا الكاتب والحقوقي د. سابا قيصر زريقبمؤلَّفجامع، راق ٍ مضمونًا
ٌ
وأنيقأسلوبًا وشكلاً. هو حصيلة ُ رُ بع قرن من العصف الفكري والخوض في مجال
علم اجتماع السياسة، مُترجِّّ حًا بين الكتابة ِّ السرديّة والكتابةالأدبية الإبداعية.
الثامن والعشرون من كانون أوّ ل2022، كان يومًا مشهودًا إذ ْ احتشد، اًحتفاء
بهذا الكتاب، جمهور ٌ كثيفٌ ، أتى من طرابلس والشمال،ومن مناطق لبنانية شتّى.
ولقد تخيَّرالكاتب:”من كل ّ ِّ واد ٍ صدى”على عمق ُ عنوانًا لمؤلَّفِّهِّ، بما يؤشِّّر
موضوعاته،ِّكما عمق الوديان، وعلى ما تُحدث ُ هذه الموضوعات من تردُّدات، كما
الأصداء في منعرجات الأودية!
ومن موقعالأصالة والوفاء للفيحاء، بل من موقع عشق الكاتب لمدينتِّهِّ، كان
له أنيُعلن، على رؤوس الأشهاد، أن َّ طرابلس “كانت وما زالت لي ملاذًا، على
بؤسها، وحضنًا لا يرتاح ُ قلبي إلى سواه،أجد ُ فيه الطمأنينة والأمان. فكان لها، كما
لمعالمها وعلمائها وأعلامها، حيِّّز ٌ واسع ٌ في مؤلَّفي”(من كلمة الكاتب في حفل توقيع
كتابه/28كانون أول2022.)
وإلى هذا الوفاء لمسقطه، كان للجّد، شاعر الفيحاء سابازريق، كبير ُ أثر ٍ في
تشكيل كاتبنّا، فطفق يتخذه نبراسًا، وراحت تضج ّ في مسامعه وصيَّة ُ ذلك الجد
العظيم:”ولاء ٌ للوطن، وحُب ٌّ للدين بنبذ ِّ الطائفية البغيضة، وعشق ٌ للعربية الفصحى”.
هكذا راح سابا الحفيد يلتزم ُ هذه الفضائل الثلاث، وسعى جاهدًا إلى تجسيدها، كما لو
أنها انتقلت إليه بحكم الوراثة الجينيّة،”فاستوطنتني-والقول ُ له-وسيطرت على
مشاعري ووجَّهت خطواتي” ( من كلمته في حفل توقيع الكتاب).ولقد أعلن الكاتب
أن ّ جدّه ملهمُه ُ إلى الرمق الأخير”، وليُضيف: “.. فهو مثلي الأعلى في الحياة، في
ُ
كل ما أقدمت ُ وما أَّقدم ُ عليه (..) كانت تربطني به صداقةٌ، قلنظيرها بين جد ّ ٍ وحفيد
(..) فكان يتعاطى معي صغيرً ا، وكأنِّّي بلغت (..) وكانيصقل ُ شخصيتي دون أن
*
-تم َّ إطلاق الكتاب في “مركز الصفدي الثقافي” في28/12/2022،وهو من منشورات “مؤسسة شاعر
الفيحاء سابا زريق الثقافية” ،2022. وقد أُقيمت ندوة حوله، شارك فيها مُداخِّ لا ً الوزير محمد الصفدي، ونقيبة
المحامين في الشمال الأستاذة ماري تريز القوال، والمحامي الأديب شوقي ساسين، ومديرة “مركز الصفدي
الثقافي” د. نادين العلي عمران.
2
أشعر، منمِّّ يًا عندي روح التجلِّّي والتحدّي وصدق القول والتسامح والتفاني وحب
الغير والخدمة العامة والإقدام والغفران” (ص ص:151-152.)
هكذا كان لسابا قيصر زريق أن “يحفظ الدرس”، درس جدِّّه، وغدا على
صورتِّهِّ، يتمثّلُه ُ دائمًا نُصب عينيه، ويترسَّم ُ خُطاه في الشهادة لزمنه، وشهادة المرء
لزمنِّه ِّ هي أعظم ُ الشهادات، ويجهر ُ بالكلمة الحُرَّ ة، وُينحازإلى الحقيقة، بكل ّ ِّ عُريها
“وكما خلقها ربُّها”! وعلى غرار الشعار، الذي أطلقته ُ يومًا جريدة “السفير”، فكانت
“صوت الذين لا صوت لهم”، أراد سابا الحفيد”أن تكون مقالاتُه ُ ألسنة الأحوال،
أحوال من لا حول لهم!” (من التمهيد، ص9.)
كيف لا يكون سابا، على ما هو، وقد رأى مواطنيه “يتخبّطون في فقرهم،
ّ
والساسة ُ يتربعون على عروش فارغة، ويتبارزون في عُهرهم وجهلهم (..) يغتالون
الوطن، وينهشون في جسدِّه النحيل، بعد أن جرّ دوه من ماهِّيّتِّهِّ” (من التمهيد، ص
9.)
“من كل واد ٍ صدى”/لونًا معرفيًّا وأبوابًا ومنهج بحث
لقد أصاب المحامي الأديب شوقي ساسين كبد الحقيقة، حين نصح لسابا قيصر
زريق أن “يُنقذ مقالاته، على خلافها، من استهلاك الجريدة اليومية، ويجمعها في
كتاب”.كما كان له أن يُثير حميَّة كاتبنا ومخاوفه في آن، حين توجّه إليه بالقول:
“ليسمن العدلّترك هذه المهمة لحفيد ٍ له، يُؤديها عنه، نظير ما صنع هو مع
جدّه”(من مقدمة الكتاب، ص8). ونُضيف من جانبناأن جمع مادة الكتابجاء في
“الساباو السياسية المقالات كون زمانيًّا، موضعهبألقِّها تحتفظ زالت لا ية”
وبراهنيّتها، على رُ غم مرور ربع قرن على كتابة بعضها. ولعلّنا، في هذاالصدد،
ُ
نرى أن ّ التاريخ لا يُعيدنفسه ُ إلا ّ فيهذه المنطقة التعِّسة من العالم–ونحن اللبنانيين
في عِّدادِّها-فالماضي يبقى ساكننا ولا نتعظ من تجاربه، ولا نُفيد ُ من دروسِّه ِّ والعِّبر!
أ-في اللون الأدبي/المعرفي للكتاب:
ينتمي هذاالكتابإلىفن ّ المقالة السياسية والأدبية. وهذا الفن–أي فن المقالة-
كما هو معلوم ٌ عرفه الغرب، منذ بضع مئات ٍ من السنين، حيث يعكف الكاتب على
مقاربة قضية محدّدة، في صفحاتمعدودات، فيُضيء عليها إضاءة مكثّفة. وقد انتقل
هذا اللون الأدبي إلى الغرب، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وعرف انطلاقته لدينا،
في عصرالنهضة، مع انتشار الصحافة، في مصر ولبنان. وتكمن أهمية هذا الفن،
ٌّ
أن المقالة نصتسهُل ُ قراءتُهُ. وهو غالبًا ما يُوضع بلغة سهلة،وبأسلوب يترجّح بين
العلمي والأدبي، وفق طبيعة الموضوع الذي يتوفَّر ُ عليه الكاتب.
9
“حوار الوقت الضائع وفُرصة استدراكه” (كُتبت في العام1999). فهذا الحوار،
بحسب الكاتب، والذي خاضغمارهاللبنانيون، حول معظم قضاياهم، وكانت جولات
إِّثر جولات،إلى أية نتائج ملموسة. وفي مواجهة الفشل الذي ِّ لم يفْضُمنيبه
المتحاورون، فهو يدعو “إلى حوار مدني، إذا صح ّ التعبير، ينطلق من قواعد أهلية،
ّ
تأكل العصييوميًّا. وهو ينبغي أن يكون حوارً ا موضوعيًّا، لا يُستثنى منه أو يُستبعد
عنه أيّة شريحة من شرائح المجتمع اللبناني، إلى أية طائفة أو منطقة انتمت. حوار
يدور ُ حول جدوّل أعمال واضح وشفاف، يتطرّ ق إلى كافة المواضيع الخلافية، التي
تُزعج اللبنانيين، من ثقافيةواجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية وتنموية” (ص
28.)
استكمالا ً حول الحوار، من خلال مقالة عنوانها: “مفاهيم الحوار وعثراته”
(كتبها في العام2006)، يخلص الكاتب إلى “أن ّ حواراتنا حوارات طرشان، همُّها
أن تخلق جدلا ً بيزنطيًّا مقصودًا، بغرض الإعاقة. فالكل على استعداد للحوار، من
موقعه، دون أن يخطو خطوة على الأرضلملاقاة مُحاوره”(ص70).ويُضيف،
عبر المقالة عينها: “إن الحوار عملية إرادية، فلا نجعل تعثّره في الماضي سببًا لعدم
الخوض به مجدّدًا، بصدق ٍ وصراحة وانفتاح”(ص71.)بيد أن أهم ّ ما في هذه
المقالة أطروحة التربية على الحواروالمواطنة،لا سيما للناشئة.ولن يكون ذلكّإلا
عبر المؤسسة التربوية التعليمية:”المطلوب أن تُلقَّن مبادئ الحوار الصحيح
والجريء والصادق والأمين، كما تُلقِّّنالأبجدية، على مقاعد الدراسة، وأن تُضمَّن
هذه المبادئ مفهوم المواطنة، كتربية مدنيّة، بحيث ينمو هذا المفهوم في ذهن التلميذ
ويُسلّحه، ليأتي انخراطه في المحيط الأوسع، وهو طالب، مُبرمجًا على اتخاذه بنفسه
القراراتوالمواقف، التي يرى أنها لمصلحة بلده، بتجرّ د ودون وصايةوصي” (ص
72.)
-ّالتحذير من عدوالخارج الطامع في بلادنا، والذي يلعب ُ على التناقضات
لتحقيق أغراضِّ ه ِّ الخبيثة، فكانت دعوة، أطلقها سابا زريق، من خلال مقالة (كتبها في
العام1999)، بعنوان “عندما يكون الماضيعبئًاعلى المستقبل.وقد جاء فيها:
ّ
“إِّيّاكم ، أيها السادة، من بابلجديدة. إِّذ ْ أنّه إذا لم تُنبذ لغات الأمس، ولم نُباشر التكلّم
باللغة نفسها، جاء من يُتقن لغاتنا، على اختلافها، للإجهاز علينا “(ص30.)
-ٌحول “وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، أو “اتفاق الطائف”، كانت مُطالعة ٌ وافية
(13صفحة) من لدُن الكاتب،عنوانُها: “الطائف سقف ٌ وطني أم غطاء ٌ للحكّام ؟”
(كتبها في العام2005). وقد خلص إلى الآتي: “إِّستعملالجميع الطائف مطيَّةً،
وأكثر من ذلك، ليُمعنوا في ممارساتهمالشائنة، فهملو أرادوا حقًا بناء بلد، على
أساس المبادئ التي أطلقوها في وثيقة الطائف، لكانوا بادروا، على سبيل المثال
وليسالحصر، إلى تأليفهيئة لإلغاء الطائفية السياسية–والطائفية علّة عللنا–
وإلى إجراء الإصلاحات الأخرى،التي نادى بها الطائف “(ص66). علمًا أن هذه
10
الإصلاحات تشمل تكريس اللامركزية الإدارية، وإلغاءالقيدالطائفي في الانتخابات
النيابية، بعد استحداث مجلس الشيوخ، ووضع قانون عصري للانتخابات النيابية،
على أساس النسبيّة والدوائر الموسّعة.
-عن الديمقراطية التوافقيّة، تلك البدعة، بل الهرطقة الدستورية، فقد كان
فصلٌ، عبر مقالة، عنوانها: “الديمقراطية التوافقية وسلاح ٌ للباحث فيها قول
المقاومة” (كتبها في العام2006)، ومما جاء فيها: “إنتسمية الديمقراطية التوافقية
تناقض ٌ في الأساس والمفهوم” ( ص73.)
وبعد مُضي ّ خمس عشرة سنة على هذه المقالة، كان للكاتب زريق أن يُعاود
ُ
الحديث عن هذه الديمقراطية الهجينة، في مقالة له، عنوانها: “درب ُ المثالثة .. جُلجُلة
لبنان” (كتبها في العام2021)، فيقول: “كُرّ ِّ ست ، منذ ذلك اليوم (أي مع وثيقة
الطائف) ديمقراطية توافقية. كلمتان متناقضتان،تكره كل ُّ منهما الأخرى. ديمقراطية
هجينة، عزّ زتها محاصصة، نتيجة توافقات، منها ما تم َّ علانية، مثل اتفاقية الدوحة
(2008)، ومنها ما حُبِّك وما زال يُحبّك ُ تحت الطاولة، كلما تواءم ظرف ٌ مصلحي
مع ذلك “( ص112.)
-ّوبما يخصُ”الهّوية الحائرة” (كتبها في العام2009ُ)، فهي تُضاد الهويّة
الوطنية الجامعة. وفي مواجهة الهويات الدينية، الطائفية والمذهبية. يدعوها المفكر
أمين معلوف هويّات قاتلة–وهي موضع تجييش واستغلال، من قِّبل السياسيين،
مُستغلّينقاط الضعف، لدى الجمهور، ويعزفون على أوتار الطائفية، ومن خلال
التواطؤ بين هؤلاء السياسيين وغالبية المرجعيات الدينية، بحيث يكون تسييس ٌ للدين
ٌ
وتديينللسياسة، يُطلق الباحث زريق دعوة خالصة لوجه مواطنة جامعة: “فليكن
ديننا لبنان، ومذهبنا لبنان، وهوّ يتنا لبنان. ولنخرج من حيرتنا، من أي َّ موقع أتينا،
ولأي ّ دين أو مذهب انتمينا. ومهما كانت ميولنا الحزبية أو السياسية، فلنمارس
شعائرنا باسم لبنان، ونختلف باسم لبنان، ونتخاصم سياسيًا، لمصلحة هويّة وطنية
لبنانية مشتركة” (ص89).
-عن الطائفية ، كانت مقالة، عنوانها: “زوبعة طائفية في وعاء ديمقراطي”
(كتبها في العام2016)، في معرض مقاربتِّه ِّ نتائج الانتخابات البلدية في طرابلس،
للعام2016، والتي لم تُسفر نتائجها عن فوز أي عضو مسيحي ولا علوي في هذه
الانتخابات.وقد كان الفوز لأربعة وعشرين عضوًّ امن الطائفة السُنيّة. وقد رفض
الباحث المنطق الطائفي التسووي، حيث راجت أخبار ٌ عن استقالة عضوين من
المجلس البلدي، إفساحًا في المجالٍلعضومن الطائفة المسيحيةوعضو ٍ منالطائفة
العلوية. وفي رأي الكاتب أننا يجب أن نتقبّل النتيجة، طالماأننااحتكمناإلى العملية
الديمقراطية. وقدتساءل، هل وجود عضو بلدي مسيحي ضروري كي يمثل
مصالحي كمسيحي؟ وعليه، كان له أن يستنكر ما وصلنا إليه جرّ اء المرض الطائفي
11
المستفحل: “إِّلام تستبد ُّ الطائفية والمذهبية في نفوسنا، والعالم أجمع يتقدّم، ونحن على
تراجع بسببهما؟ ” (ص101.)
وفي مقالة أخرى حول الطائفية “تعالوا نتكلّم المسيحية بلكنة مشرقية” (كتبها
في العام2013)، رأى “أن عدم معالجتنا لدائنا الأكبر، المتملّك منّا، أي الطائفية
ووليدتها المذهبية، كفيل بالإتيان على صيغتنا المميّزة في هذا الشرق” (ص96.)
-في مقالة، عنوانها “درب المثالثة جُلجُلة لبنان” (كتبها في العام2021)، وقد
سبق التمثّل بهذه المقالة، أبدى الكاتب معارضة شديدة لعقد”مؤتمر تأسيسي”بهدف
تكريس المثالثة بين المسيحيين والسُنّة الشيعة، وجهر بالقول: “.. لا يصح ّ أن نلجأ
ّ
إلى أي مؤتمر تأسيسي جديد لإعادة تأسيس ما هو مؤسس أصلا ً (..) هل حان الوقت
يا تُرى لتعديل دستور الطائف لإرساء المثالثة ؟”(ص113.)
-عن الميثاقية،صنيعةالطائفية، كان له في مقالة، عنوانها “الميثاقية
المزعومة” (كتبها في العام2021)، يرى إليها العدو ّ الأول للمواطنة: “لاتعدو
كونها شعارً افضفاضًا، يُوظّف ُ سياسيًّا. أوليست الميثاقية صنيعة الطائفية اللقيطة،
تضرب المساواة بينالمواطنين؟ أوليست هي العائق الأكبر أمام ترسيخ العلمنة
السياسية والنظام المدني؟ أوليست هيالعدوالأوّ ل للمواطنة الصحيحة؟ هل أجهز
ٌ
يومًا عاملسيّئ ٌ على النموذج اللبناني أكثر مما فعلتها الميثاقية المزعومة؟ص ( “
119.)
-في مقاربة باحثنا أطروحة العيش المشترك، فإن الأكثر إلحاحًا، في عُرفه،
تكريسُه ُ بين المسلمين أنفسهم، سُنّة وشيعة، وليس بين المسلمين والمسيحيين:
“بمجرّ د التلفّظ بهذا التعبير، يشرد الذهن في عالم التعايش المسيحي الإسلامي،بينما
الكل ّ يُدرك، تمام الإدراك، أن مفهوم العيش المشترك، في أيامنا هذه، ينطبق تمامًا
على التعايش، ليس بين المسيحيين والمسلمين، بلوربّما، على نحو ملح ّ أكثر، بين
السُنَّة والشيعة(الميثاقية المزعومة، ص117.)
-عن التعددية في الاجتماع اللبناني، ومن خلال مقالته “التعدّدية واقع ٌ لا
محالة” (كتبها في العام2016)، يرى إليها نعمة وليست نقمة:”التعدّدية واقع،
أنعمت السماء على اللبنانيين بها (..) ينبغي أن تكون إكسيرً ا ديمقراطيًّا، لو نحن
فقهنا معناها” ( ص133.)
-وأما عن الأمن بالتراضي، وهو يدعوه الأمن بالتفاهم، فهويرذلُه ُ ويرفضه،
لأنه يجعل المجرم أو العابث بالأمن شريكًا مع السلطة: “الأمن بالتفاهم يجعل من
العابثين بالأمن شركاء في حلول ٍ لمشاكل هم تسبّبوا بها، مما يُجرّ ِّ د الدولة من قوة
البطش، التي لا غنى عنها، بهدف حماية المواطنين فيها وتعزيز هيبتها المفقودة”
(من مقالة، عنوانها: نزع السلاح”، كتبها في العام2019، ص ص:143–144. )
12
الكتابة الإبداعية” الوجه الآخر المضيء للكتاب !
لعلَّه ُ من قبيل تواضُع كاتبنا، أو من قبيل الإحتراس، أو التماسًا مُسبقًا لعُذر، إذا
ما اقترف خطأ، في مجال الكتابة بلغة الضاد،فقد كان له أن يُعلن: “لم أمتهن الحرف ُ
يومًا، ولم أتقنهُ، كما كانت تشتهي نفسي” (التمهيد، ص7.)
ْ
وإذأعملناالنقد في الأسلوب التعبيري، الذي توسَّله ُ الباحث زريق، فقد تحصَّل
نصوص لنا خلاف ما ذهب إليه، وأتانا الخبر ُ اليقين، حين أكببنا على العديد من
الكتاب، لا سيما العائدة للباب الثاني، وهي عبارة عن مقدِّّمات كُتُب، أصدرتها
“مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية”.
َّ
ولا شكأن اللون الكتابي/التعبيري، الذي اعتمده كاتبنا، في العديد من هذه
المقدّمات، يكتنز الكثير من عناصر الإبداع الأدبي. هكذا، أسفر عن مُنشئ، له في
ميدان الكتابة كعب ٌ عالٍ! بل إنه، في هذا المجال، تفوّ ق أحيانًاكثيرة على ممتهني
الكتابة. فهو، بقدر ما يُعطي موضوع الدراسة حقَّه، تحليلا ً وتفكيكًا، يحرص ُ على
تجويد أسلوبه.
ولكي لا يبقى كلامنا في الإطار التنظيري العام، نضع ُ بينيدي َّ القارئ مقتطفًا
من قطعة ٍ أدبية، عنوانها “فيحائي .. هويّتي”. وهي محطات ٌ من سيرة ذاتية ومسيرة
ُ
عمر. فهو إذ ْ يبوح ُ بعشقه فيحاءه،ّوهو عشق ٌ متوارث ٌ عن الجد-أعشق ِّ عاشقي
طرابلس–يذهب إلى أنَّه أُرضِّ ع عشقمدينتِّهِّ، منذ عهد الفطام.. وهاكُم ما أبدع قلمُهُ:
” أبت سنة1952(هي سنة ولادةالمؤلِّّف)، وهيتحشرجُ، بضعة أسابيع قبل أن
تلفظ آخر أنفاسها، في ذاك السادس من تشرين الثاني، أن ترحل قبل أن تهب الفيحاء
ً
إبنًا جديدًا، أو عشيقًا جديدًا، كما سوف تُبيِّّن ُ الأيام لاحقًا، وإن كانت مُتيقِّّنةأن
الحضن، الذي سوف يترعرع ذلك المولود فيه، يفطمه لامحالةعلىِحُبها، ليتحول
ٍ
ذلك الحب ُّ إلى وَ لَهُّ، يرُ سِخ ُ انتماءه إليها، في لبِه ِ وبدنِهِ، وتعلُقِهبها، كما شروش
السنديانة الألفيَّة، تتمسَّك بأرضَهَا تمسُّكَها بروحها”(وردت هذه المقالة في كتاب:
“طرابلس الفيحاء–مدينة العلم والفنون، لماذا؟”، من إِّعداد د. نيللي الحسيني، ص
163.)
ٍ
فإلى جمال التعبير وحميميّته، واتّسامِّ ه ِّ بطابع أدبي راق،فإن َّ لسلامة اللغة
واختيار المفردات الملائمة ما يشي بامتلاك الكاتبناصيةاللغة العربية الفُصحى.
وإذ ْ نستزيدُ، فنستل ُّ مقتطفًا آخر من هذا النص،ُيرتكسفيه الكاتب إلى عهد
التلمذة الأولى، فيستذكر مدرسته “مدرسة الفرير”، وهي من أقدم الصروح التعليمية
التربوية في طرابلس،إذ ْ ترقى إلى القرن التاسع عشر، فهو يأسى لما حل َّ بها، إذ ْ دُبِّّر
في ليل إلغاؤها من الخارطة الطرابلسية. فقد هُدمت، وارتفعتفي المكانعمارات
إسمنتية، لا معنى لها ولا لون ٌ ولاطعم! بإزاء ذلك طفق الكاتبيبثُّنا لواعجه وجميل
13
الذكريات: “.. وضربالجهل ُ وطننا الدامي، وزعزعت الحربأركانه، وهجر
ُ
المدينة كُثر ٌ من أبنائها. كما هجرتها مدرستي، وهّجرت أشجار الليمون منها، وقضت
رائحة البارود على ما تُفرزه أزهارها. غير أن ذلككلّهلم يُغيِّّر ما في قلبي شيئًا.
َ
فأنا، لو نظرت ُ إلى المباني التي اغتصبت أرضمدرستي، لا أنفك ُّ أرى فيها صفوفًا
وملعبًا ووجوه أساتذة مُحببة.ولو تنشقت ُ رائحة البارود، لا أزال أشتم ُّ فيه عبق
الليمون الآفل! ” (ص166.)
ٍ
وفي رجعةإلى المقدّمة، التي وضعها الكاتب “للآثارالكاملة لشاعر الفيحاء”،
حيث يصف علاقته بجدِّّه، في أخريات أيّامِّ هِّ، لنا أن نتملَّى من هذه العبارة: “..
وشببت ُ برفقتِّهِّ، حتى أنّه بعد أن نالت السنون ُ من عزيمتِّه ِّ وجهورية صوتِّهِّ، دون أن
تستطيع النيل من عقله النيِّّر وقريحتِّه ِّ الفيّاضة، كان ينتدبني لإلقاء قصائده في
الحفلات والمناسبات الرسمية والخاصة،فكنت ُ أُخرجُها من فمي بصوتِه، مقلِدًا
نبرته لتدخل آذان المستمعين، وكأنها صلاة ُ الفُصحى ترفض ُ المغيب”(ص152.)
لم نُورد هذا المقطع، بقصدالتملِّّي منه فحسب، بل كي ندرك أن سابا الحفيد
خضع “لدورات تدريبية”،إذا جاز الّتعبير، بإشراف الجد. وبامتلاكه تلك الوقفات
الخطابية، التي أشار إليها، فلا بُد َّ أن يكون لوقفاتِّه ِّ كبير ُ أثر في تجويد لغته العربية،
ذلك أن الشكل لا يتكامل فصولا ً من دون المضمون!
… قضية ٌ تستحق ُّ أن نُعيرها أهمية، بما يّخصتجويد الكاتب لغته التعبيرية،
فحواها أنهخلال الفترة، التي تمتد ّ من العام2013وحتى اليوم، حيث خاض كاتبنا
غمار الحراك الثقافي، بوتيرة عالية، كان “مضطرً ا” إلى تحبير الكثير من
النصوص، في مناسبات وإطلالات مختلفة (مقدمات كتب، ندوات، محاضرات،
رسائل وكلمات إلخ ..). هكذا كانت “تمارين”كتابية، راكمت لديه خبرة ً نوعية ً في
مجال الكتابة، على خلاف أغراضها وألوانها … كل أولئك جعله لاعبًا أساسيًّا في
معمعة الكتابة بالعربية الفصحى.
ولما كان سابا زريق، صاحب الشخصية الأنيقة، لا يرتضي إلا الإتقان في أي
عمل يقوم به، فمن الطبيعي–وهو حفيد عاشق العربية والمنافح عنها–أنلا يقّصر
في هذا المجال. ومصداقًا لهذا التوجُّه، لنا أننتوقّف عند توصيف شوقي ساسين
ّ
لكاتبنا، إذ ْ يقول: “سابا قلم ٌ يسكن ُ الوجع، من أوّ ل السطر حتى تنشف المحبرة. كأن
ريشتهِّبُريت بمبضع، أو كأنها كسرة ُ ضلع، إذا حزّ ت الورق هراقت عليه الأفراح
مواجع”(من المقدمة ، ص13.)
ولنافي ختام هذه النقطة، وبما يُعزّ ِّ ز ما خلصنا إليه، أن نتساءل: كيف لا تكون
لسابا الحفيد نفحات ٌ والتماعات ٌ أدبية، وهو القائل: “.. أناالمُشبع ُ أدبًا دون أن اكون
أديبًا! “(كلمة بمناسبة حفل عشاء، في مؤتمرأدباء طرابلس الخامس2015، ص
291.)
14
هذا الاعتراف المفارقة ينم ّ عن تواضع العلماء، “ومن اتضع ارتفع”!
خاتمة: سابا قيصر زريق صاحب مشروع فكري ثقافي نهضوي !
في لغتنا الفلسفية ونحن نتكلّم على جدل الوجود، ثمة وجودان إثنان، أولهما
ُّ
وجود ٌ “هُيولي”، أي وجود ٌ لم يتحقّق ولكن لديه قابلية ُ التحقق،ُوتحقُّقُهٌمشروط
بظروف معينة، وهذا ما ندعوه بالفرنسية (En puissance)أي وجود بالقوة.في
حين أن النوع الثاني، يتجسَّد في الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل (En
fait)، أي الوجود الناجز.
هذه المقولة/المعادلة تنطبق “ًحفرً ا وتنزيلا”على الكاتب سابا قيصر زريق.
ذلك أنه، منذ رحيل جدّه، شاعر الفيحاء، مثلِّه ِّ الأعلى، في العام1974ُ، راح يهجس
في تحقيق أمنية ذلك الجدّ، الذي أوصاه، عشيّة خضوعه لعملية جراحية، بأن يتدبَّر
أمر ديوانه الشعري، الذي يضم عشرين ألف بيت، في مختلف الفنون الشعرية إضافة
إلى كتاباتنثرية، فقد استشعر أنه لن يخرج سالمًا من تلك العملية. وقد صدق حدسُهُ،
وغادر هذه الدُنيا!
ثمان ٌ وثلاثون سنة (بين عامي1974و2012)، وسابا الحفيد يعيش حالة
وجود “هيولي”، وجود بالقوة، إذا جاز التعبير، كان مخاضٌ ، وكان إِّثره انتقال ٌ أي
وجود بالفعل، وكانت “الآثارالكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق”، التي أبصرت
النور في العام2012. وقد كان لهذا الوجود بالفعل أن يتكرّ س، عبر محطة مفصلية،
تمثّلت بالندوة التي عُقدت في “بيت الفن،الميناء”، في20نيسان2013، حول
“الآثار الكاملة”. وقد كان لنا شرفالمشاركة فيها، إلى جانب د. زهيدة درويش
جبور، ومربِّّي الأجيال الأستاذ شفيق حيدر، وبإدارة د. جان توما. هذه المحطة
أرّ خت لانخراط سابا زريق في النشاط الفكري والثقافي، الطربلسي والشمالي، من
باب واسع. وفي هذا الصدد يقول: “.. فيتلك الندوة، التي وصفهاكُثُربأنها كانت ّ
نفسي مُذ ُ مميّزة، عاهدتاك على مواكبة الحراك الثقافي النشِّط، الذي تنعم به
فيحاؤنا” (ص308.)
وقد تبعذلك، أي غداة هذه الندوة، إنشاء “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق
الثقافية”. وقد كنت ُ في مداخلتي، قد قدّمت عدةاقتراحات، في عِّدادهاإقامة هذه
“المؤسسة”.هكذا تقاطع هذا الاقتراح مع رغبة د. سابا قيصر زريق، الذي كماكان
مصمِّّ مًا على إنجاز ذلك الحلم، الذي يُراوده!
وعن أهداف هذه “المؤسسة الزاهرة، فهي تنصب ُّ على الآتي: نشر الثقافة
الأدبية العربية/تشجيع الكُتّاب والباحثين على نشر نتاجهم باللغة العربية/تنظيم
اللقاءات والمحاضرات والندوات الأدبية والثقافية حول مواضيع تتعلّق باللغة العربية
15
وثقافتها/المساعدة على استحداث مكتبات أو دعم مكتبات قائمة، تضم ُّ مراجع باللغة
العربية.
.. ثم تأتي محطة كبرى، تُشكِّّل ذروةتحقُّق الحضور “الساباوي” بالفعل، من
خلال الكتاب/المرجع، الذي وضعناه حول شاعر الفيحاء سابا زريق، بعنوان:
“مُقابسات زريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد”.
وقد تم إطلاقه، عبر ندوة مشهودة ، في مركز الصفدي، العام2016.
هذه المحطات الثلاث شكَّلت عامل “توريط”محمود لسابا الحفيد في الحراك
الفكري والثقافي، ليس على مستوى طرابلس فحسب، بل علىالمستوى اللبناني
أيضًا، وباتت “المؤسسة”، بإنجازاتها، في صدارة المنتديات الأدبية لبنانيًّا. فقد
أصدتاريخه مائة كت رت حتىُوشعراء ومفكرين، ج اب، لأدباءلُّهممن طرابلس
والشمال، إلى إقامة عشرات الندوات والمحاضرات والمشاركة في دعم مؤتمرات
وتظاهرات ثقافية، وإمداد المدارس وبعض الجامعات بمكتبات وأجهزة كومبيوتر،
وسوى ذلك من أعمال.
.. ويأتي هذا الكتاب “من كل ّ واد ٍ صدى” ليعكس جوانب واسعة ومضيئة من
هذه المرحلة، الممتدة من العام2013وحتى اليوم. ناهيك عن مرحلة، ما قبل “الآثار
الكاملة” ، وهي مرحلة مطبوعة ٌ بطابع سياسي واجتماعي، امتدت من العام1996(
حسبما يتبيّن من تاريخ المقالات) وحتى العام2013، ولم يتوقف هذا اللون من
المقالات، التي درج عليها كاتبنا. أي أن الحراك “الساباوي”، في مجال الكتابة
السياسية والفكرية والأدبية بكلّيتهِّ، يرقى إلى حوالي ثلاثة عقود ٍ من الزمن.
تأسيسًا على ما تقدّم ، وهنا بيت القصيد، نرى أن سابا قيصر زريق، شاء أم
أبى، هو صاحب مشروع نهضوي، دشّنه من خلال كتاباته في قضايا الشأن العام،
ويستكمله بوتيرة عالية في الميدان الثقافي والأدبي، ولم يتخل َّ حتى اليوم عن
الكتابات، في علم اجتماع السياسة.
ولا شك أن سابا زريق لم يدخل ميدان الكتابة السياسية ليكتب، على طريقة الفن
للفن. بل كان صاحب رسالة والتزام بقضايا مجتمعه وهموم شعبه. إنها كتابة ٌ ملتزمة
بامتياز، ذات بُعد وظيفي، بُغية التأسيس لوطن علماني (العلمانية السياسية)، يُجاهر
بإدانة الطائفية، مرض لبنان العُضال، ويقف ضد “الديمقراطية التوافقية”، وهي
هرطقة دستورية، ويدين “الميثاقية” التي تعوق ُ مسار لبنان نحوالإصلاحالناجز ..
وإلى قضايا أخرى، سبق أن فصّلناالقول فيها.
16
هذا التوجُّه نحو لبنان جدي ، لا يتكامل فصولا ً من دون إِّعارة المسألة الثقافية
ما تستحق من اهتمام. هكذا كان لسابا أن يعيش جدل السياسة/الثقافة، من موقع
وطني، ومن موقع إنساني، تتوجّهما القيم السامية.
ويبقى السؤال، المعلّق علىمشجبالانتظار:إلامسيُفضي هذا المانيفستو
(Manifeste)، الذي يضمّه الكتاب بين دفّتيه؟ هل سيبقىحبيسالكتاب، أم ستتم
ترجمتُه ُ على أرضالواقع عملانيًّا؟ إنّه التحدي الذي ينتظر سابا عند مفترقات
مُتعدِّّدة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى