المقابلات

“دعسة ناقصة”… وجه آخر لمدينتنا!

تجاربهم جاءت لتقول ما يريدون البوح به. الرقص بمثابة تعبير صارخ عن احوالهم.

هم لم يقصدوه بل هو جاء اليهم، هكذا يرددون دوما. ففي ازقة طرابلسية عتيقة موشومة جدرانها برموز حربية وشعارات طائفية مقيتة طواها اللبنانيون منذ 25 عاماً، جاؤوا ليحتضنوا الشارع لا ليحتضنهم هو. رسموا فيه كل احلامهم بواقعية مفرطة. فعبروا من خلال حركات راقصة عن مشاعرهم وانفعالاتهم. رقصوا ليخرجوا اثلام اوجاعهم كلها، من ضيق المعيشة والفقر الى تعبهم من بلد غارق بديونه وانقساماته السياسية، ولا يقدم لهم فرصا ليطوروا احوالهم ومواهبهم في ظل معيشة خانقة.
وحدها الازقة والشوارع استطاعت ان تؤمن لهم مساحة كاملة لتفريغ طاقاتهم وتحويلها الى حلم. لا شيء سوى تلك الامكنة المخفية في شوارع وحارات اسماؤها محفورة في اذهان الطرابلسيين على انها امكنة للحرب وساحات اقتتال، استطاعت ان تحضنهم.  اماكن تحولت اليوم الى مسارح مفتوحة  للتعبير، وممارسة هوايات حية ومساحات للتدريب على رقص الشارع.
ففي طرابلس تكونت فرقة رقص شارع. و  صارت تملك حضورها بين فئات الشباب، نظرا الى مرونة اعضائها وتنوعهم بين ذكور واناث وتدعى “دعسة ناقصة”. التسمية الغريبة جعلت الكثيرين يسألون عن الفرقة  ويتستقصون اخبار افرادها. رغم انهم مجموعة شباب عاديون جمعتهم مدينة واحدة ومدرب واحد وشغف واحد ايضا.
يتدربون في كل مكان يتاح لهم الرقص فيه. في مداخل الابنية وفي الازقة وفي الحدائق العامة. يعتبرون كل الاماكن ملكا لهم. الفرقة تأسست منذ سنة ولكل واحد من اعضائها قصة. بدأوا كهواة وصاروا محترفين حتى صار الاقبال عليهم للاستفادة من مواهبهم في عروض الاعلانات والفيديو كليبات عاليا. خلقوا حالة خاصة بهم. رفضوا واقعهم السيء وانتفضوا بثورة “الرقص”.
يقول مدرب الفرقة خضر شعبان(29 سنة) الملقب بـ”كودا” ان الفرقة بدأت بالتشكل منذ اعوام اذ كان هؤلاء الشبان يتدربون عنده في حي “باب التبانة”. جاؤوا صغارا في الثانية عشرة من عمرهم اليه واصروا على تعلم الرقص وحركات الجمباز. منعهم من الانحراف ومن سلوك طريق المخدرات والتعاطي بحبوب الهلوسة ومنعهم اكثر ايضا من التدخين. يراهم ولا يصدق انهم كبروا سريعا وصار كل واحد منهم في عمر التاسعة عشرة. يجلس كأخ كبير معهم يطيعونه ويسمعون نصائحه ويستشيرونه في كل شيء. رغم اوضاعهم الصعبة جددوا ارادتهم في تعلم شيء ما ينتشلهم من حياتهم القلقة. فلا افق امامهم سوى الرقص.
يعيشون في ازقة صغيرة. لا ينتبه احد الى تفاصيلهم او الى تلك الاشياء الصغيرة المختلفة التي تسكنهم. ينامون في بيوت لا تربطهم بها سوى غرف النوم، رغم انها بيوت عائلاتهم. عائلات لم تكتشف ذوات هؤلاء او تشجعها. يعيشون بين اسر فقيرة وبعضها متوسط الحال، لا قدرة لها على تنمية حواسهم ومواهبهم. لم يقبلوا بدفنها. حاولوا اخراجها واستطاعوا لانهم آمنوا، ان في كل واحد منهم شخص يستحق حياة افضل. وهم يضعون آمالهم الكبيرة في حلم يحاولون تحقيقه، داخل بيئتهم وجوّها مهما اختلفت الوانه وتعقيداته، يبقى حلمهم هدف لا محالة من الوصول اليه. محمد المصري(18سنة) وهو راقص حائز على المرتبة الاولى في لبنان في رقص الشارع يقول انه استطاع من خلال البرايك دانس ان ينسى مشكلات عائلته وتذمر والده الدائم و”نقه”. اما امير المير (18 سنة)الذي يكمل دراسته ويعمل في الوقت نفسه فيعتبر الرقص “مساحتي الخاصة” و”يفش” خلقه من خلاله. اما بلال فهو يرقص “تاكنو”. يجذب اليه الكل في نمط رقصه الغريب. تحبه الفتيات المراهقات ويعجبن بشعره الطويل الذي يزيد من رقصه تألقاً. وباولا الفتاة التي وجدت الرقص مع الفريق”ممتعاً” فهي تقدم عرضها بخجل ورقة انثوية هادئة تقول:” لا اشعر بالغرابة معهم. يخافون علي ويهتمون بي وصرت المدللة لديهم”. اما ربيع وجاك فهما يجدان الرقص منفذهما الوحيد ليقولا ما يشعران به عبر الحركات.
لكل واحد منهم قصته المختلفة وسيرته، الا انهم جميعا يملكون شغفا واحدا. شغف يجمعهم رغم كل الشتات الذي يعيشون تفاصيله في وطن غارق بخلافاته السياسية ولا يزال ينتظر ولادة حكومة جديدة. الا انهم ما زالوا يتشبثون به وطنا لا بديل عنه. يدركون معنى الهجرة والعمل في الخارج من خلال نماذج قريبة من محيطهم او بعضها من منازلهم وعائلاتهم. لا يعرفون سوى الرقص سبيلا الى تغيير نمط حياتهم واخراجها من حياة التسيب والضياع. وبعضهم يعترف عالياً  ان لا شيء في حياته يستحق الاندفاع من اجله سوى الرقص.

صهيب ايوب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى