المقالات

توسل النميمة – د. قصي الحسين

توسل النميمة، توسل الغيبة، صار أمرا شائعا اليوم بين الناس. صارت النميمة خارطة طريق لأولئك الحاقدين. لأولئك المأزومين. لأولئك الذين لا يجدون أعداء لهم، حتى يغتالونهم، بالقدح والذم، فيشرعون في الغيبة، يشرعون في النميمة عليهم. يشرعون في نسج النمائم وحياكتها. متأثرين بأسلوب الواسطي في صنع المنمنمات. يفتحون النوافذ لها على كل الجهات. ثم يقبعون في الظل في العتمة في الخفاء في الزوايا المعتمة، يتقنون التقية والتخفي، يتكئون على كتف أنيس، على كتف جليس. ويأخذون في النميمة على الناس.

أولئك المأزومون، المتورمون، من غير ورم منطقي. يصعرون خدهم للناس، يضرمون النار في أذيالهم، على غفلة منهم، يستمطرون الشتائم والنمائم والغيبات. يستمطرون الألسنة الحداد. يصطنعون السحب السوداء بالدخان. يستمطرونها. والقلوب جلفاء، والعقول رعناء. والعيون حمراء. والوجوه صفراء. يشعلون ذيل النميمة. يضرمونها في وديان الناس.

يشعلون ذيل النميمة، يضرمون فيها النار، ويرمونها مثل “بقر الإستمطار”، من الأعالي في الوديان. يترجون الإستمطار.. يتوسلون المطر. والطقس صحو والشمس متربعة وسط النهار.

توسد النميمة ليلا، صار عادة مرضية. صار مجلبة للكوابيس الموحشة، صار مجلبة لأحلام الصغار. يغيرون وسائدهم طيلة ليلهم. يصارعون الليل بالهلوثات. يقطعون الليل، بتغيير الوسائد. بتقليب الوسائد. بلعن الوسائد. برميها بتمزيق نسيجها. ثم تخطر لهم وسادة النميمة. فيجرون وراءها عراة مع أحلامهم المريضة. يقلدون أرخميدس. يتوسدونها. ويهتفون: “وجدتها. وجدتها”.

تصف ألسنتهم الأكاذيب. تحيكها، في الليل وفي النهار. يقطعون وقتهم في تجريبها، وسيلة للشهرة الكاذبة. وسيلة للصنعة الكاذبة. وسيلة للصفة الباطلة المبطلة، الكاذبة.

دعي رخيص، هو الأرعن النمام المفتن. هو النمام الفتنة، بين الناس. هو النمام، المفتن الذي يستغيب الناس. رجل الغيبة والفتنة والنميمة. يحمل في يده مجهره، يغير كل برهة نظارته، يبحث عن عيوب مثل الحائك العتيق. يبحث عن عيوب نعل، مثل إسكافي يرقع النعال. يبحث بمجهره الرخيص، عن عيب لغوي. عن شاهد، عن إستشاد. عن شهادة، يسهل عليه تزويرها، في مقالة أو في مقال. يصنع ديباجة كذبه، بلعاب الأفاعي، ويشهر على صاحبه سيفا زائفا، يسميه “لعاب المنية”.

النميمة صفة من صفاته الكثير والخبيثة، من نوع الطفيليات المريضة، التي تقتات من لحوم الناس. تعيش على أبدانهم، مثل الحكة المقيتة المنتجة للتقرحات، ثم تشرع في طلب الحكاك. حكة تؤدي إلى حكة. ولا ترتاح. إلا حين تنز قحا ووهما ودما.

للنميمة ألسنة عديدة، مثل ألسنة النيران. أو مثل ألسنة الأفاعي. أو مثل ألسنة العقارب. أو مثل ألسنة ذباب الخيل، وذباب البقر. والذباب الذي ينمو على الروث. أو مثل ألسنة البراغيث والقمل والبق. أو مثل ألسنة “نساء التنور” و “نساءالحارات”. أو مثل ألسنة “رجال السوءات”.

أعرف ذا نميمة، يظن أن عليه تميمة. إجتهدها. علقها على صدره، لإشعار إستباقي، بالفضل وبالشعر. وبالألمعية. وبالنجابة. وبالقراءة وبالكتابة. وبأن نجمه طبق الخافقين. وبأنه حين يجالس الناس، فإنما يريد أن يؤنسهم ويمتعهم. وينفحهم من فيهه: النثر والشعر. وبأنه يريد أن يطعم مجلسهم، بشاعر مشتهى لهم. بشاعر يشتهونه. “لا بشعر يشتهونه”. ولا بنثر، أتفه من شعره الذي لا يشتهونه.

يسير في الشارع ك”حالة مرضية”. يجلس في المجالس، كحالة مرضية. يتحدث كحالة مرضية. ينم على الناس عموم الناس، كحالة مرضية.

لا أبالغ إذا ما قلت: إن النميمة فيه، حالة مرضية. يستيقظ العالم كله، كل صباح، بالغيبة و بالنميمة. فلا يدع واحدا من الناس يعرفه، إلا ويقذفه ولو من بعد بنميمة خرقاء، يظن أنها حارقة، فيراها الناس وقد بطل مفعولها منذ زمان بعيد، لأنها قذفت من يد كليلة. من فم عيي. من كف غير حاذقة.

النميمة والشتيمة، وجهان لعملة واحدة. يعيش عليها شاعر، في الوقت المستقطع، بين الرعي في حقول الشعر، وبين الرعي في حقول النثر. تراه يرعى إخوانه بنمائمه وبشتائمه، يخبطهم بها خبط عشواء، تتنقل بلا تحرز، بين البقل وبين الحمض. وحتى اليوم لم يدرك صاحبنا، أن مستقبله، ليس أفضل من مستقبل بعير أبي تمام، حين قال:
لأمر عليهم أن تتم صدوره/ وليس عليهم أن تتم عواقبه
على كل رواد الملاط تهدمت/ عريكته العلياء وإنضم حالبه
رعته الفيافي بعدما كان حقبة / رعاها وماء الروض ينهل ساكبه.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى