التحقيقات

طرابلس “عاصمة الثقافة العربية” 2024: الفكرة والجذور والأهداف – كتب: سامر زريق – المصدر: الرائد نيوز

في الآونة الأخيرة، كثر التداول الإعلامي لمدينة طرابلس من زاوية اختيارها عاصمة الثقافة العربية عام 2024، ولا سيما مع اللقاءات التي يجريها وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال محمد وسام المرتضى في هذا الشأن. وكذلك مع إثارة قضية اقتطاع قسم من أرض سكة الحديد لتحويلها الى مرآب للشاحنات، والتي تحولت الى ماراتون إعلامي شعبوي، حيث طرزت العبارات ودبجت البيانات التي تندد وترثي في آن معاً. فبقي الأمر قاصراً على مصطلح جامد تلوكه الألسن، دون التعمق في الفكرة نفسها وأصلها، وماهية الأهداف المتوخاة منها.

فكرة أوروبية
عام 1983، عرضت وزيرة الثقافة اليونانية ميلينا ميركوي على نظيرها الفرنسي مبادرة ثقافية تقضي باختيار إحدى مدن القارة العجوز بشكل سنوي لتكون “مدينة الثقافة الأوروبية”. قدمت ميركوري الى الاتحاد الأوروبي مشروعها الهادف الى تأصيل التعارف والتمازج الثقافي بين الشعوب الأوروبية، ولكي تنال الثقافة جزءاً من الاهتمام الذي يحظى به قطاعي السياسة والاقتصاد.

عام 1985، اختيرت العاصمة اليونانية “أثينا” لتكون أول “مدينة للثقافة الأوروبية”. بعدها، شهدت المبادرة تحولات وتطورات جعلت منها حدثاً ضخماً ومؤثراً. في التسعينيات، اقترحت المجموعة العربية في منظمة “اليونيسكو” توسيع التجربة الأوروبية لتشمل المنطقة العربية، لما تزخر به من مخزون ثقافي أثرى الحضارة الإنسانية، ولتكون مناسبة لتعريف الآخر غير العربي بالإرث الهائل للحواضر العربية.

من مبادرة الى مونديال ثقافي

  • عام 1990، ومع اختيار مدينة “غلاسكو” البريطانية كـ”مدينة الثقافة الأوروبية”، تحول الاختيار الى عملية شبيهة بانتخاب المدن التي تستضيف الألعاب الأولمبية، حيث صار يتوجب على المدينة التي تريد الترشح أن تصوغ مشروعاً متكاملاً بموازنة جاهزة، يتضمن العروض والنشاطات والفعاليات التي ستنفذ خلال فترة اختيارها. تُعرض المشاريع على مجلس وزراء الثقافة الأوروبي، وتمر بعدة مراحل تستمر لنحو 6 سنوات، على أن يتم الاختيار بعملية اقتراع سرية.
  • عام 1999، جرى تحويل المسمى من “مدينة الثقافة الأوروبية” الى “عاصمة الثقافة الأوروبية”
  • عام 2004، ومع انضمام 10 دول جديدة الى الاتحاد الأوروبي، اتخذ مجلس وزراء الثقافة فيه قراراً باختيار مدينتين على الأقل كل عام، لتصبحا “عاصمة للثقافة الأوروبية”، بسبب العدد الكبير للدول الأعضاء، ولكي لا تنتظر دول أوروبا الشرقية، الحديثة العهد في العائلة الأوروبية، مدة طويلة حتى يتم اختيار إحدى مدنها.
  • عام 2014، أقر البرلمان الأوروبي اختيار عاصمة ثالثة من مدن البلدان المرشحة لعضوية الاتحاد، أو تلك التي تعد جزءاً من “المنطقة الاقتصادية الأوروبية”.

وبعدما كان الأمر قاصراً في البدايات على بضعة معارض وحفلات، تحولت المبادرة الى “مونديال” ثقافي وحضاري، حيث صارت المدن تتسابق للفوز بهذا اللقب، وتقيم مئات الفعاليات التي تسوق لها بأساليب احترافية مبهرة، بما يجذب الناس من مختلف أنحاء العالم. أبعد من ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي سعى الى عدم الاكتفاء باحتفاليات تدوم لسنة فقط، بل هدف الى تفعيل وتنشيط الحياة الثقافية بشكل مستدام. ولهذا شجع ترميم المراكز الثقافية، وتحويل المصانع المهجورة الى صروح ثقافية أو بناء نماذج جديدة.

حافز للتطور
أظهرت دراسة لـ”المفوضية الأوروبية” أن المبادرة كانت حافزاً للتطور الثقافي والحضاري في المدن التي جرى اختيارها. ويؤكد على ذلك المؤرخ والباحث الألماني يورغ ميتاغ في حديث صحفي “لدى اختيار منطقة الرور غربي ألمانيا عام 2010 عاصمة للثقافة الأوروبية، شاركت 53 مدينة في آلاف الفعاليات في ذلك العام، بحيث تحولت المبادرة الى حدث ثقافي وإعلامي ضخم يحشد كل المنطقة، وتخصص له ميزانية ضخمة”. بلغت الموازنة التي رصدت حينها 65 مليون يورو، ساهمت في تأمينها مدن المنطقة نفسها ومتبرعون، في حين ساهم الاتحاد الأوروبي بـ1.5 مليون يورو.

قبل إقرار الاتحاد الأوروبي رسمياً عام 2014 تعيين عاصمة ثقافية ثالثة من خارج دول المنضوية في إطاره، جرى اختيار مدينة اسطنبول التركية لتكون “عاصمة للثقافة الأوروبية” عام 2010، استجابة لمبادرة جريئة قام بها مجموعة متطوعين من المجتمع المدني التركي، ساندتها بقوة حكومة “العدالة والتنمية” برئاسة رجب طيب إردوغان، ونُظر اليها على أنها تشكل فرصة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية، وتصب في خانة دعم انضمام تركيا الى الاتحاد.

لأجل ذلك رُصدت موازنة ضخمة، وجرت عمليات ترميم التراث الثقافي، وتطوير البنى التحتية وقطاع السياحة، مع تشجيع السكان على المشاركة في عملية صنع القرار عبر الشراكة بين منظمات المجتمع المدني والحكومة في التحضيرات. وعلى سبيل المثال يذكر زوار “متحف الأمانات المقدسة” في قصر الباب العالي “Top Kapı” باسطنبول عام 2009، عدم وجود مصحف الخليفة عثمان بن عفان في مكانه، وكذلك بردة النبي محمد “الخرقة الشريفة”. وذلك بسبب إجراء عملية ترميم لهما كلفت آلاف الدولارات، لأنها تتم يدوياً، وبدقة وحساسية بالغتين، عبر متخصصين من أجل الحفاظ عليهما بهيئتهما الأصلية، وتستغرق مدة طويلة. علاوة على أعمال ترميم لبعض المساجد والأماكن التاريخية.

النسخة العربية
انطلقت المبادرة بنسختها العربية، تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألسكو”. وهي منظمة تابعة لجامعة الدول العربية، مقرها العاصمة التونسية، تعنى بالحفاظ على الثقافة العربية، وتطويرها في المجالات الثلاثة الواردة في اسمها.

وكان من الطبيعي أن يتم اختيار مدينة “القاهرة” كأول عاصمة للثقافة العربية عام 1996، لما تمتع به من تراث تاريخي وثقافي وحضاري. تلتها مدن عربية أخرى، بينها العاصمة اللبنانية بيروت عام 1999، مع اختيار مدينة “القدس” “عاصمة دائمة للثقافة العربية”. أما عن طريقة الاختيار، فهي تستند الى 5 معايير:

  1. أن تكون المدينة ذات عراقة تاريخية ومكانة ثقافية بارزة في بلدها ومنطقتها.
  2. أن تكون لها مساهمة متميزة في مجالات الثقافة الإنسانية عبر أعمال علمائها وأدبائها ومثقفيها وفنانيها.
  3. أن تتوفر على مراكز للبحث العلمي ومكتبات للمخطوطات.
  4. أن تتوفر على مؤسسات ثقافية فاعلة في مجال تنظيم المواسم الثقافية، ومعارض الكتب والرسم، والعروض المسرحية، وأعمال الترجمة والنشر.
  5. أن يقدم الترشيح مرفقاً بدراسة وافية عن المدينة، ومستجيبة للمعايير السابقة أو بعضها على الأقل.

هذا الملف يحال الى “ألسكو”، لتتولى عرضه على اللجنة الدائمة للثقافة العربية، ثم على مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي لاتخاذ القرار المناسب. في أيار 2015، اختارت “ألسكو”، بتوصية من اللجنة الدائمة للثقافة العربية، مدينة طرابلس اللبنانية “عاصمة للثقافة العربية” عام 2021. لكن جرى تأجيل ذلك بطلب لبناني، أول مرة الى عام 2023، ثم مرة ثانية الى العام الحالي 2024.

طرابلس “عاصمة الثقافة الإسلامية”
قبل سنوات، قامت منظمة العالم الإسلامي للتربية والثقافة والعلوم “الأيسيسكو”، وهي منظمة تابعة لـ”مؤتمر التعاون الإسلامي”، وتعنى بالتراث الإسلامي وتطويره، باختيار مدينة طرابلس لتكون “عاصمة للثقافة الإسلامية” عام 2013. لكن جرى نقل الحدث الى عام 2014 بطلب من الهيئات ومنظمات المجتمع المدني الطرابلسية، بسبب الظروف الأمنية حينها، فوافقت “الأيسيسكو”.

وبالفعل، كانت مدينة طرابلس “عاصمة للثقافة الإسلامية” عام 2014، بالشراكة مع ثلاث مدن أخرى: “بشكيك” في قيرغزستان، “واغادوغو” في بوركينا فاسو، و”الشارقة” في الإمارات. ومع أن النظام المتبع يقضي باختيار 3 مدن: واحدة عربية، والثانية آسيوية، والثالثة أفريقية، إلا أن “الأيسيسكو” كسرت هذه القاعدة مرتين فقط لاختيار طرابلس، في خطوة دعم وتشجيع لهذه المدينة التي كانت تشهد أحداثاً دامية. وتصادف في ذلك العام اختيار طرابلس أيضاً، إنما الليبية، “عاصمة للثقافة العربية” عام 2014.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي القيمة المضافة التي حصدتها طرابلس حينذاك؟ ومن يذكر أساساً أنها كانت “عاصمة للثقافة الإسلامية”؟

ومع أن الحال نفسه ينسحب تقريباً على كل الحواضر العربية التي سبق أن اختيرت عاصمة للثقافة العربية أو الإسلامية، باستثناء المدن الخليجية التي تشهد نهضة مميزة على كل المستويات، إلا أن هذا الحدث يمثل فرصة ثمينة لإبراز هوية طرابلس وتاريخها وإرثها الثقافي والحضاري. وهذا ما كان يستوجب التحضير والإعداد المسبق لبرامج وفعاليات غنية ومتنوعة لا تستثني أحداً، وتشمل كل أبواب وأنواع الثقافة والفنون.

علاوة على ذلك، فإن نجاح هذا الحدث مقرون بإخراجه من الحيز النخبوي المقفل، والحصرية التي يحاول البعض فرضها، كي تشعر كل فئات المجتمع الطرابلسي بأنها مشاركة في صنع الحدث، ومعنية بإنجاحه. لا ريب أنه ثمة تأخير كبير في الاستعدادات التي لا تزال غير جدية، وليست على مستوى الحدث، إلا أن الفرصة لا تزال متاحة. يقول الإمام علي بن أبي طالب: “إضاعة الفرصة غصة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى