التحقيقات

كي لايكون دور وسائل الإعلام نقل الواقع وتقريره فحسب \ أسامة إسماعيل

     ليس كل متخصص في مجال الإعلام والصحافة أو يحمل إجازة في هذا المجال  ملزما"بتتبع السياسة الآنية والموضوعات المفروضة المرتبطة بها والإهتمام بتفاصيلها، وليس ملزما" بالتبعية والولاء للطائفة والحزب ومن يسمى "الزعيم" والدولة الخارجية التي يرتبط بها وتدعمه كي يعمل في هذا المجال ويحصل على حقوقه المادية والمعنوية. فالإعلام والصحافة أوسع وأرقى من ذلك، ولكن المدارس والنظريات الإعلامية السائدة والمعتمدة من قبل معظم المؤسسات الإعلامية تصور الإعلام والصحافة والمتخصص والعامل فيهما على هذا النحو،فيطغى على معظم وسائل الإعلام، وخاصة المحلية الطابع الإخباري والمسيّس الآني، وتسير في ركب التبعية والولاء والتملق للجماعات والسياسيين ومن يسمون "الزعماء" والأحزاب والجمهور لأنها بحاجة إلى ممولين وداعمين ومتابعين ومشاهدين فيما الإعلام النخبوي الحر المستقل الناقد والمتخصص والثقافي والتغييري لايحظى بشعبية ولايجذب المتابعين والمشاهدين والأموال والأرباح. فالنظريات والمدارس والممارسات الإعلامية على مدى عقود من الزمن، رسخت مفهوم الإعلام الجماهيري والشعبي ألذي يعيش ويستمر عبر تسويق  الأخبار السياسية الآنية والدعاية المرتبطة بها و َ الموضوعات المفروضة والسطحية.  

هذا الوضع يوهن دور الإعلام النخبوي الحر المستقل الناقد والتثقيفي والإرشادي والتغييري، ويجعل دور معظم وسائل الإعلام السياسية نقل الواقع السيء الإجتماعي والسياسي والديني والإقتصادي والإنمائي والفني وتقريره لانقده والدعوة إلى تغييره وتقديم رؤية شاملة وواضحة لأسباب المشكلات والأزمات والحلول؟
على الصعيد الإجتماعي، هل يواجه الإعلام والصحافة حالة القطيع الإجتماعي أو الجماعي وينتقدها؟ فيرشد المتلقي إلى أن الإنسان يختلف عن الحيوان الإجتماعي بأنه يستطيع بعقله وإرادته الإمتناع عن السير في القطيع الإجتماعي، ويجب أن تكون علاقة الفرد مع المجتمع علاقة ندية حقوقية لاعلاقة اتباع وخضوع وولاء وتقليد لحركته وجموده، ولكن المجتمع في لبنان هو مجموعة طوائف وعشائر وعائلات وأحزاب لامجموعة أفراد أحرار مستقلين، حيث العقل والعاطفة والغريزة والمصلحة المادية أمور جماعية وتخضع لوصاية زعيم القطيع وسلطته، وحيث الأمور والأسرار الشخصية والفكرية والمهنية معرضة للتهديد والتدخلات والمزاحمة والإستلاب. وعلى الصعيد السياسي تشجع الديموقراطية الإنتخابية العددية الطائفية الحزبية حالة القطيع الجماعي وعلاقة التبعية والخضوع والولاء له، فيربط الحصول على الوظيفة والعمل والمنصب والمال والزواج وإنجاب الأولاد والمكانة بهذا الأمر. وهذه الديموقراطية ولاّدة أزمات وفساد مالي وإداري وهدر وفوضى واستبداد وتحزب و”محسوبية” وظلم، وتجعل الدولة ضعيفة وسيئة يقودها “زعماء الطوائف” والأحزاب الطائفية والإيديولوجية الشعبوية المرتبطون بالخارج بدلا”من الدولة القوية القائدة، وتهمش النخبوي الحر المستقل الناقد وتحاول حرمانه لأنها تضع السياسة والإنتخابات والإدارة بين أيدي العامة وغير النخبويين المستقلين وحتى الفاسدين في حالات معينة. وتشجع السياسة الآنية الضيقة والإنتخابية التي تستولدها مع أزماتها كالأزمة الحالية في لبنان. فأسباب هذه الأزمة ليست إقتصادية ومالية ونقدية فحسب، وتربط معالجة الأزمة بهذه السياسة. وهنا تتابع معظم وسائل الإعلام والتواصل السياسية في لبنان ممارسة دور الناقل والمقرر للواقع لا الدور النخبوي الحر المستقل الناقد والإرشادي والتغييري عبر نشرات الأخبار والبرامج الحوارية والتعليقات والتحليلات والتقارير التي تربط المعالجات والحلول بانتخاب رئيس الجمهورية والوضع الإقليمي وحرب غزة والوضع على الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة. فهذا الدور يجعل معظم وسائل الإعلام والتواصل السياسية في لبنان عاجزة عن تقديم رؤية شاملة وعقلانية وواضحة ومتوازنة ومستقلة حول أسباب الأزمات والمشكلات والقضايا والحروب وسبل معالجتها، وتسود الرؤية الجزئية الآنية والعاطفية والشعبوية والإيديولوجية والتابعة. فأزمة لبنان الحالية ليست وليدة التحويلات المالية بالعملة الصعبة المتسارعة إلى الخارج فحسب، وليس الحل لها انتخاب رئيس الجمهورية وتعزيز صلاحياته، وليس الحل للقضية الفلسطينية بعملية عسكرية لاتردع المحتل الإسرائيلي عن التدمير والقتل ولاتحرر مايحتله ومن يأسره، ولابسلام يعطيه أكثر مما يأخذ منه. وكما يقول المثل:”كثرة الطباخين تفسد الطبخة”، كذلك كثرة المحللين على شاشات التلفزة المحلية والإقليمية للأحداث والأزمات والحروب، وخاصة أزمة لبنان وحرب غزة، توجد حالة ضياع وتشتت وهدر للوقت والأعصاب دون جدوى بالإضافة إلى ترويج ترويج توقعات تحتوي إشاعات التهويل والتضخيم والغموض والوهم وإلإشاعة الحالمة والدعاية السياسية والحزبية والإنتخابية والتملق. وعلى الصعيد الإقتصادي والإنمائي تغيب أيضا”الرؤية الشاملة والواضحة والمتوازنة بعيدة المدى ويتم التركيز في معظم وسائل الإعلام والتواصل السياسية على الآني والجزئي والضبابي والمنحاز لطرف من الأطراف. وإن التحويلات المتسارعة للودائع بالعملة الصعبة إلى الخارج في أواخر سنة 2019 وبداية 2020 هي سبب مباشر لارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية ولكن أسباب الأزمة المالية والنقدية والإقتصادية والإنمائية الحالية موجودة مسبقاً منذ عقود من الزمن وهي كالسوسة تنخر البنية الإدارية والمالية والإقتصادية والإنمائية لهذا البلد. وأهم هذه الأسباب :الفساد المالي والإداري والهدر والدين العام والعجز والإقتصاد الرأسمالي غير الخاضع لضوابط كافية وغير العادل، والسياسة الإقتصادية التي تشجع الريع والإستهلاك والإعتماد على الإيرادات الضريبية ونمو ثروات البعض على حساب غيرهم ويهمل القطاعات الإنتاجية والإبداعية والإستثمار فيها والتنمية الشاملة والمتوازنة وتجعل قيمة الفرد في مايملك من مال وكمية أوراق نقدية بالعملتين الصعبة والمحلية بالإضافة إلى التبعية و”الواسطة” و”المحسوبية” والفوضى الإقتصادية والحالة الشعبوية. والمستغرب أن بعض وسائل الإعلام والتواصل السياسية التي تبنت ما يسمى “ثورة 17تشرين الأول 2019” تتخذ موقفاً إيجابياً تجاه إجراءات وقرارات جزئية وغير حاسمة وغير عادلة وتصفها بإصلاحات مثل تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي عند 89,500 ل. ل. تحت عنوان الإستقرار النقدي وكذلك تعميمي مصرف لبنان 151و158،وموازنة 2024 التي أقرها مجلس النواب، وهذه الموازنة رسخت ارتفاع سعر صرف الدولار عند الحد المذكور مقابل الليرة اللبنانية وزيادة تعرفة الضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة على هذا الأساس دون تمييز بين ذي الدخل المحدود والمنخفض وذي الدخل المرتفع والغنى والثري، ولا تمثل الضريبة على الدخل ألمرتفع والأرباح ورؤوس الأموال أكثر من 7،2%،ورسخت أيضاً غياب الإنفاق الإستثماري وعدم دعم القطاعات الإنتاجية والإبداعية، وتكاد لاتذكر النفقات الإستثمارية بما فيها الصيانة والبنى التحتية في الموازنة.
على الصعيد الديني، معظم وسائل الإعلام والتواصل السياسية في لبنان تروج دين المناسبات والمظاهر والطقوس والعادات وتقديس الأشخاص والولاء لهم، الدين الذي يبتعد عن العقل والإرادة الفرديين والإيمان الحقيقي، كما تروج السياسة التي تستغل الدين والمذاهب والطوائف الدينية لأجل الزعامة َوالسلطة والنفوذ والثروة والشعبية والغايات الحزبية والإنتخابية كما تستغل التحريفات والشوائب والتشويهات التي أدخلت في الأديان لأجل تبرير التفاوت الإقتصادي والإجتماعي والأزمات والحروب والسلوك السيء وتمثل الحركة الصهيونية الذروة في هذا المجال، مما أدى إلى تقصير الأديان عن ترسيخ الإيمان الحقيقي الذي يتوافق مع العقل وإلارادة الفرديين والحرية الحقيقية والعدالة والكرامة وتقويم إعوجاج السلوك ومكافحة الفوضى والإستبداد والتسلط والإزعاج والتعدي. فمعظم وسائل الإعلام المحلية السياسية وبخاصة المرئي والمسموع تشجع الإتجاه الشعبي والعاطفي والفولوكلوري والسطحي في الغناء والموسيقا والمسلسلات والأفلام والبرامج الفنية والترفيهية والإجتماعية وتهمش الفن الراقي والمفيد والمسلي. وبعض وسائل الإعلام تشجع الأناشيد الدينية المذهبية التي تقدّس أشخاصاً بعيداً عن جوهر الدين والعقل والإرادة الفرديين.
عندما تنتقل وسائل الإعلام والتواصل السياسية من حالة التبعية والولاء والتملق للسياسيين والأحزاب والسلطات الدينية المذهبية وللجمهور والفئات الشعبية إلى حالة النخبوي الحر المستقل الناقد والإرشادي والتغييري والتثقيفي يصبح دور الإعلام أرقى وأوسع مما هو عليه اليوم، ويصبح قادراً على نقد الواقع السيء السياسي والديني والإقتصادي والإجتماعي والإنمائي والفني ومحاولة تقديم اقتراحات الحلول والإصلاح والتصويب بعيداً عن دور الناقل والمقرر وشعراء البلاط ووعاظ السلاطين والملوك ومايطلبه الجمهور.
أسامة إسماعيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى