رؤية استشرافية للبنان المؤرّخ حسن محمود قبيسي: «وطن الفتن والمحن بين ألم التاريخ وأمل الغد» \ المصدر: موقع جريدة اللواء

نادرة هي العناوين التي لم يتطرق إليها المنسق السابق لمادة الحضارة العربية الإسلامية وأستاذ اللغة العربية لغير المتخصصين في الجامعة اللبنانية الدولية والكاتب والسياسي المؤرخ الموسوعي د. حسن محمود قبيسي، والنخبة من المفكرين والمؤرخين الذين شاركوه (مئة وستون باحثا وباحثة بينهم نواب ووزراء ونقابيون وحزبيون ورجال دين)، كل في ما يعنيه، في موسوعته التي قدّم لها السيد وزير الثقافة القاضي محمد وسام مرتضى: «وطن الفتن والمحن، بين ألم التاريخ وأمل الغد».
عملوا جميعاً لتصنيف موادها وما تطرقت إليه: جغرافيا وديموغرافيا وطوائف وعائلات، وتكتلات (نقابات وأحزاب)، والحالة المعيشية وعملية الإنتاج: أدوات وعلاقات، وكيف كانت تلك الولايات والإمارات والسناجق مراكز إنتاج، والمؤسسات الدستورية ونظام الحكم، والأزمات السياسية والكيدية والعبث بالدستور وتسييس القضاء والضغط على القضاة، والقمع والظلم والتجهيل، وفساد أخلاقي وتربوي وتعليمي واقتصادي ومالي ونقدي والمحسوبية، طوال القرون الثلاثة الأخيرة حتى يومنا هذا، والعادات الدينية والشعبية والتقاليد والفولكلور والتراث والأعياد والأكلات الشعبية، والهجرة والعلاقات الدولية والعربية والهيئات العربية والدولية وانضمام لبنان إليها، والفكر السياسي واقتراحات نظام حكم ديموقراطي عادل ورؤية مستقبلية.
في أهمية ما قدمته الموسوعة نسجل نشأة وتكوين الكيان اللبناني وجغرافيته، والجغرافيا كما الديموغرافيا عاملان مهمان من عوامل التاريخ والصراعات فيه. والعوامل الأخرى للصراعات في لبنان ممكن تعدادها بدءاً بالتعددية التي يصرّ لبنانيون على كونها لبّ الصراعات والخلافات، وهي عامة في كل الكيانات والمجتمعات كما لحظ قبيسي، الذي رأى في طمس الهوية اللبنانية الجامعة وتقديم الهويات الفئوية المذهبية منها والحزبية والمناطقية وتضارب الولاءات والانتماءات، وتضارب المصالح الأجنبية وارتباط معظم اللبنانيين بالأجنبي، رأى فيها مبعث الخلافات والاختلافات؛ فكانت فتن القرن التاسع عشر في جبل الدروز نتاج التراكمات والأحقاد المتبادلة بين الموارنة والموحّدين الدروز، والصراع على السلطة بينهم والتي اشتدّت في زمن بشير الثاني الشهابي وتنكيله بالموحّدين الدروز (ويشير المؤرخ قبيسي إلى استفزاز السلطة اللبنانية للموحدين الدروز بوضع صورته على عملة ورقية من النقد اللبناني، والاستفزاز في أنه الوحيد الذي حظي بهذه اللفتة) ومساندته الموارنة الذين حملهم فخر الدين الثاني المعني من شمال لبنان أوائل القرن السابع عشر، ولكل فريق من يدعمه في حربه للإمساك بالسلطة والنفوذ، وتجدّدت مع إنشاء لبنان الكبير في القرن العشرين الذي شهد أزمات وأزمات وصلت إلى الاقتتال بعدما توسّعت دائرة المنغمسين فيها، بإهمال مناطق لبنانية من التطور والإنماء، وحرمان فئة لبنانية من حقوقها كمواطنين، بذريعة أن ذلك هو الضمان الوحيد للتخلص من مخاوفها من طغيان مسلمي المحيط، وتفرّق اللبنانيين على التحالفات مع قوى التحرر العربي منذ بروز جمال عبد الناصر وصراعه مع الاستعمار الغربي، وتمركز المقاومة الفلسطينية فيه وانطلاق عملياتها لتحرير أرضها وشعبها.
ونسجل هنا عدة ملاحظات أبرزها عدم التطرق إلى الصراع اللبناني – الصهيوني ومسبباته وأسبابه ومعظمها ذرائع تلطّى ورائها العدو الصهيوني، وعدم الاهتمام الوافي بتناول الاعتداءات الصهيونية على لبنان وشعبه وسكانه ومقاومتها، والدور الفلسطيني في الأزمات اللبنانية المتعددة، وقد يكون وراء ذلك تجنّب تكرار معالجتها بعدما صدرت في عدة مجلدات للمؤرخ قبيسي:
- التحضير والاحتضار.
- الانحدار والاندحار: من وعد بلفور إلى الوعد الصادق.
- لبنان المقاوم: آيات النصر المبين.
- أبو عمار من فلسطين وإليها.
وملاحظة ثانية، اقتصار تاريخ المناطق التي كُوّن منها لبنان على الوقائع التي ما زالت تداعياتها وفعالياتها مؤثرة في هوية لبنان وانتمائه ومجتمعه وحركيته لا سيما منذ الفتح العربي، باعتبار أن لا وجود للبنان قبل 1920، ومن ذلك التاريخ كان التوسّع والتفصيل والتحليل. وفي قصد المؤرخ قبيسي أن في ذلك تصدّياً للطوباوية وادّعاء «أزلية» لبنان، فما من كيان وطني أزلي ولا نهائي كما كتب ويكتب دائماً.
وخلافاً للشائع أن التاريخ يعيد نفسه؛ يرى قبيسي أن التاريخ لا يعيد نفسه، «فالتاريخ وقائع يحدثها البشر وأحياناً تكون بفعل كوارث طبيعية».
التاريخ يصنعه المستضعفون واللاهثون وراء المجد، ويزَوِّره المستكبرون والحكام، ويصدق السطحيون حتى السرديات المزعومة الخارجة عن المألوف، ويعتبر من وقائعه الساعون إلى الحياة الحرة الكريمة فهو «ليس معرفة الماضي وحسب؛ هو دراسة لصناعة المستقبل…» باستشرافه.
وفي الموسوعة الذي عمل عليها ومشاركوه عقود وعقود فهم وتفهّم دون تبرير، والإتيان على ما زعمته الأطراف وما ادّعته دون تبنّي له.
والنظر إلى أن «التأريخ في صورتيه عبثي وغائي، وفي الثانية مواصفات» و«فلسفة بما هي الفلسفة معرفة وحب الحقيقة وحكمة، وأدب بما يبعث من أحاسيس إعجاب وغضب وفخر»، فجاءت موسوعته شاملة مجردة من أي تحيّز أو اصطفاف.
المؤرخ يدوّر الزوايا ولا يطمس الحقائق. يدرس ما وقع ويظهر مدى تأثيره على مجرى التاريخ.
كان أمام المؤرخ قبيسي اعتماد واحد من منهجين حدّدهما للتأريخ: المنهج التاريخي الذي يتابع التطورات وملاحظتها للوقوف على مسبباتها ونتائجها واستشراف الغد، والمنهج الوصفي، وأهم ميزاته الطريقة والواقعية المجردة بالتعامل مع الحدث. فاعتمد الأول مما أكسب الموسوعة رصانتها ودقتها وحياديتها.
وتواصل مع كل معني بما حدث لطرح مسببات ودوافع انخراطه في الواقعة وأسبابها المعلنة، مع كشف ما يراه المؤرخ قبيسي الأقرب إلى الواقع والمنطق والدقة بموضوعية شهد له كل من راجعها أو اطّلع عليها.
معنيون تجاوبوا واستجابوا، فأفردت لهم الصفحات الكافية، وقلّة راوغت أو تردّدت، فمن تخلّف لدافع ما، وكانت الكتابة عنه/ها لا بد منها؛ أكتفى بما وصل من معلومات حولها لأهميتها في مجريات الأمور، وما يقال عن ما جرى ينطبق على مؤسسات تربوية ومجتمعية وأحزاب ومعتقدات وعائلات ونشاطات، فلم يهمل أي مفيد.
الموسوعة إضافة نوعية إلى المكتبة التأريخية وسفر لا يستغنى عنه، ومن هنا أهميتها وضرورتها وتثميننا لها، وتقديرنا لجهد المؤرخ قبيسي وجهد كل من واكبه في إنجازهم الذي يسجل لهم.
د. فواز الحسامي
أستاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية الدولية
صدرت الموسوعة عن «دار المحجة البيضاء» – الطبعة الأولى 2024، في 3600 صفحة احتوتها ستة كتب موزعة على خمسة مجلدات
Best Development Company in Lebanon
iPublish Development offers top-notch web development, social media marketing, and Instagram management services to grow your brand.
Explore iPublish Development