ثقافة

تأمل البرعم \ د. قصي الحسين

” تعبر هذة النصوص… عن مزاج شبابي في السنوات الأخيرة، لأنها لم تفرض كمواضيع أدبية يجب الإلتزام بمعالجتها، بل هي نتيجة هوى الطالب وإستبطانه ما يشغله وما يهمه. هي إذن نوافذ مختلفة، تطل على الزمن الواحد… نماذج عن المشاعر والرؤى الشبابية….
إن هذا الكتاب منبرهم. وللجامعة منه فائدة أكيدة. وكذلك اللغة العربية. وإلى ذلك أضيف ما هو شخصي جدا: أنا أستمر بهم.”
(د. رشيد الضعيف).

أثناء النزهة، تصادفك الأزاهير والورود. تجذبك إليها. تقف على الحافة الملأى بها. تنتبه إلى نفسك، وأنت تتأملها. تشعر بغبطة الإعجاب بها. تتملكك الدهشة. وحين تريد الإنصراف، تحين منك إلتفاتة معجبة، لذلك البرعم الذي يتحمس للتفتح حتى يملأ منك النظر. يطل من بين الحصوات. ومن تحت الترب. ومن جانب الجذع القاسي. وربما من تحت القسوة الشديدة أحيانا. فيبهرك وهو ينفذ كل هنيهة. وهو يتنهد نهدة التوثب. وهو يريد الفتوة والشبابية والرجولة، ليدخل حقل العيش، في دورة الحياة. كأنه يريد التعبير عن نفسه، لا عن الآخرين. كأنه يريد أن يقول: أنا هنا. كأنه يريد أن يشعرك بحضوره للتو، من الغفلة. يريد أن يقفز من بين الغفلى. من بين الجفلى. إلى ملعب الجد والحضور المليء، في عالم مجتمع الزهر والورد. مجتمع الصغار والكبار: برعما ثم ثمرا.

” نص حامضة. نصوص مختارة لطلاب الكتابة الإبداعية في الجامعة الأميركية في بيروت. إشراف وتحرير: د. رشيد الضعيف. نلسن للنشر- بيروت. 2025: 215 ص. تقريبا”.

مجموعة من النصوص، أم مجموعة من البراعم التي تأخذ طريقها للتفتح، وهي لا تزال في مساكبها. تحتف مع النسيمات. ومع حبات البرد. مع النور و الندى. تتأمل الشروق عند كل شروق. تأخذ حصتها الطبيعية، في مناخها الطبيعي، بين الصفوف. ثم تمضي، تعبر عن ذاتها: لونا وبهجة وبهارا ودهشة. وضحكة ناعسة، أم خجلى، أم ما يشبه العطاس المفاجئ، إثر تبدل الهواء، وإحتمال الرذاذ. غب السقاية و الغسل عند الفجر.

“كم أستغرب من أولئك الذين ينكرون وجود مدبر للكون. إنظر إلى ماحولك من إتقان! إنظر إلى الكون الدقيق. إنظر إلى مصنع الأوكسجين الذي يسمى بالنباتات! إنظر إلى نفسك! كل ذرة منك مصنع مستقل بحد ذاته…. إنظر في هذا الوجود، تعرف صفاته. تعرف عظمته في إبداع هذا الوجود!.”

نصوص مشرئبة بصيغة برعم مشرئب، هكذا يراه الواقف على الحافة وعلى الوهدة. وإلى الأفق. يسرح بخياله، وهو يرى البرعم يشق طريقه للتفتح. يريد صيغة تعبيرية عن حضوره المفاجئ. يقطف لذة النظر من العينين. ويأنس للشمعة اللافتة الهافتة. للشمعة الناحلة: تزهو بتبديد الظلمة/ العتمة. وتمنحك الأمل. تمنحك الرجاء.

” عندما وصل نديم إلى بيروت، عاش مشاعر مختلفة جدا. مشاعر عصفور هرب من قفصه. كانت الحياة كما تخيلها وأجمل. فرادة شخصية ساعدته على إكتساب كثير من الأصدقاء الذين كان يدعوهم كل مساء إلى غرفته”.

لا شيء أحلى من البرعم، تقف عليه مع الصباحات. تتلمسه بنظرك. تجيله بالكلية، من جميع الجهات. وتراه كأنه يعدك بالكبر، بالكبرياء. كأنه يواعد الزمن، بأنه من شركائه المياومين، الميامين. يبدأون مع الشفق. ولا ينزلون التعب عن أكتافهم، إلا مع حلول الغسق.

“بعد وجبتي، وأنا في طريقي إلى المنزل، مررت بالمكان الذي فقدت فيه الحلقة. وقلت لنفسي إنه لم يكن ذنبي. وإخترت أن أسامح نفسي، لأن ما حدث خارج قدرتي. وفي اللحظة التي تركت فيها الأمر خلفي، فاجأتزي تلك الأشعة الذهبية وذلك اللمعان المألوف. كانت الحلقة تتلألأ أمامي على خطوات مني.”

نصوص لفتية الجامعة الأميركية، في رأس بيروت. يقايسها الأستاذ الرشيد كل يوم بناظره. يرمي عليها بعض ضوء عينيه، ويحيي فيها جذوة الحب والحياة. بعنفوان رجل الجبل، الذي لا ينحني، إلا للصخر والريح والشمس والثلج. أتاح لها قلبه. خبرته.أدبه. عراكه اليومي، وهو يمضي الوقت في صنع الجمال،بين نصوص، تراكم الجمال، وتأتي به إلى المساكب البهيجة، أينما كان.

” عندما فتح باب الثلاجة، وقع نظره على صحن فنجان قهوة عليه زصف ليمونة.
“للتبولة”! قالت المرأة عندما رأته يتأمل نصف الليمونة متعجبا. ” عرفتني لبنانية، ما هيك؟”.
ضحك داني وأجابها “ولو! بكل بيت لبناني في نص حامضة بالبراد”.

كل جمال رسالة. وهل العيش، إلا بعض رسائل الجمال. يلتقط وريقاته عن الترب. ثم يعيد غمسها في صحن القلب. يمنحها فرصة أخرى. يمنحها دورة أخرى. يعشق بين براعمها، حتى يكتمل الزهر والورد.

” لقد إستخدمت عيزي للنظر إلى الشمس من تحت الماء. وهو شكل من أشدال الفن ىا يستطيع حتى “مايكل أنجلو” تقليده. لقد إستخدمت شفتي لتذوق الثلج لأشعر بالشتاء يتسرب إلى داخلي.”

قبل أن تنخرط تلك النصوص، في خارطة دفتين من كتاب، سبقها رشيد الضعيف، بعنايته. أخذها بكفيه غرسة إلى حديقة الجامعة الأميركية. غرسها هناك. ثم جلس يكتال الريح تحت شجيرات الصنوبر، وهضبات العمر.

” أجلس على طاولة، أتناول القائمة بشغف، وأطلع على مجموعة واسعة من الخيارات. أنل جائعة. كنت أعمل فؤ المصرف طوال النهار، ولم يكن لدي وقت لتناول الطعام.”

زرقة البحر في عينيه، وهو ينظر إلى برعم يتفتح مثل طاقة من زهر وورد. فليس عجيبا، أن ترى جدر الجامعة، طاقات طاقات من ورق “الدويك” ومن زهر النرجس، ومن شقائق النعمان. وكذلك من أنبوبة الحميضة التي ترشح بالماء.

“ثم أنني لم أرى إلا جثتي توضع في براد الموتى، باردة خائفة لا تدري إلى أين ستذهب. هل ستشعر بالبرد هناك أيضا؟. هل ستشعر بالوحدة؟ هل ستخاف؟.. هل… هل…”.

هي صفوف، صفوف، على جدر الحياة، في تدرج جامعي، أكاديمي، بعناية، من جمع وأثنى. من هم ومن كد. ومن أجدى. حتى صارت الصفوف جميعها، زهرات يانعة.

“في ذلك الصباح الجميل بكينا معا كثيرا وضحكنا كثيرا وتحدثنا كثيرا. وبعد أن هدأنا، رأيت خالتي تذهب إلى الشباك، وتقف متأملة متبحرة بالثلج. كأنها تبحث فيه عن أثر يزيل من أعماقها قلقا تعجز عن التخلص منه.”

“نصف حامضة”، بين يدي رشيد الضعيف، على مساكب الجامعة الأميركية في رأس بيروت، هي كأس، ونصف عمر، وزهرة تعي التفتح. معناه. في قيظ الهاجرة.

” هلا إلى العمل مشيت، وإلى تعويض ما فاتني سعيت. هنيئا لي أن وصلت إلى عملي اليوم بالمجان وأنها تجربة لا تحتمل النسيان…
وأدرك السكعي وقت العمل، فغادر على عجل.”

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى