المقالات

“ظلّ الأُخُوَّةِ… حين يغيب الضّوء

حين يغيبُ بعضُ الوجوهِ عن مجالِ البصر، تبقى الأنفُسُ الّتي أحببناها ساكنةً في سويداءِ القلب…وهناكَ في عمقِ الغيابِ، يُزهرُ الوفاءُ، وتكتبُ الأُخوّةُ رسائلَها الخفيّةً كلَّ صباحٍ وَمَساءٍ؛ همسةً من القلب، إلى أخٍ لا يُنسى.

نحنُ نمضي في دُروبِ الحياةِ كما يمضي السّائرُ في ممرّاتِ غابةٍ كثيفة؛
وهُناكَ أيّامٌ تنفلجُ فيها الأشجارُ فينكشفُ السّماءُ صافيةً فوق رؤوسنا،
وأيّامٌ تتلبّدُ فيها الأغصانُ فتُحجبُ عنّا الشّمس…وما بين إشراقِ اللّحظاتِ وعتمةِ الفَقدِ، يبقى حضورُ بعضِ الأنفُسِ معنا كأنّه النّورُ السّاكنُ في أعماقِ الظّلّ، لا يُرى بالعينِ، لكن يُحسُّ بالقلب.

إنّه الأخُ الذي لا تغيبُ ذكراهُ عن الحُضورِ، ولا تنقطعُ صلتُهُ بدعواتِنا في السّرّ، ولا تُغَيِّرُهُ فصولُ البُعدِ، ولا ينقلِبُ عندَ مواسمِ الغياب…

ولأنَّ للوفاءِ أصواتاً لا نسمعُها في الضّوضاء،
ولأنَّ للأُخوَّةِ ظلالاً أبقى من ضوءِ الشّمس، هذه همسةٌ من همساتِ الصّباحِ والمساءِ أكتبُها إليكَ… أيُّها الأخُ الذي لا أَنساهُ:

“إلى ذاكَ الأخِ الّذي يسكنُ نبضي وإن غابَ وجهُهُ عن عيني،…إلى مَن يذكُرُني في خلواتِهِ بدعاءٍ صافٍ كنبعِ اليقين… ما أبهاهُ!
إلى من أراهُ أخاً في اللهِ، وعِزّاً في القلبِ، وصَفاءً لا تُكدِّرُهُ الليالي… ما أعزّهُ، وما أصفاهُ!

أيُّها العزيز، لا تحتاجُ أن تَبحَث عنّي في وهجِ الضّوء،
فإنّي في العتمةِ اذا جاءتنا يوماً، وقد جاءتنا،… ستجدني فيها فانُوسَك الأيمَن.
ولا تحتاج ان تُنادِيني وسطَ الضّجيج، فأنا أقربُ إليكَ من صدى صوتِك… أُصغي إليك بصمتِ الأنفُسِ التي عرفتْ معنى الوفاء.

في كلّ صباحٍ جديد، ومساءٍ قربَ المَغيب، أنا هنا… لا يُقعِدني عنك غيابٌ ولا يُثنيني زمانٌ ضَمُورٌ أم لهُ حُضُورٌ، فإنّ عهدي القديمَ راسخٌ، لا أبرحُهُ حتى يأذَنَ اللهُ بأمرِه.

يا اخي، أنتَ في الحضورِ الوفيُّ في الذّاكرةِ، ,وأصدقُ من كلّ صورةٍ عابرة. فالقُلوبُ التي وُهِبَت بنعمةِ نورِ البصيرة، لا تُخطئُ الدّروب، ولا تخونُها لُغةُ البيان.

فكُن مُطمئنّاً، يا أخي، يا خيرَ رفيق: قلبُكَ يعرفُ سبيلَه، وإن أطبقتِ الظّلمات، ووجهُكَ سيظلُّ وضّاءً بنورِ الهداية، مهما أثقلَ الطّريقُ بالعُسرِ والشّقاء.

فالحمدُ للهِ الّذي رزقَنا إخاءً لا يُغيّرهُ زمانٌ، ورباطاً يشتدُّ إذا ضَعُفَ السّندُ، ونداءَ حقٍّ يُشرقُ في أنفسنا صباحاً بعد صباح. ومساءً بعدَ مساءٍ.

خِتامًا، وها أنا… أخُطُّ إليكَ كلماتي هذه مِن صِدقِ الحنين، والرّوحُ ترتجفُ بين سُطورها كما يرتجفُ النّدى على وَرَقِ غُصن ِ الزّيتونِ اللّدِنِ، ليسَ لأنَّ المسافةَ طالت…بل لأنَّ في القلبِ خُيوطاً منكَ، لا تقطُعها المسافاتُ ولا تُبلِيها السُّنون.

يا أخي، لو عَلِمتَ كم تُقيمُ في دهاليزِ ذاكرتي كقنديلٍ لا ينطفئ، وكم تُجاوِرُ وجعي كما يُجاورُ اللّيلُ وجهَ القمرِ، لابتسمتَ وأنتَ تعلمُ أنّك لستَ وحدك، فإنّ هناكَ نفسًا تُقيمُ في كُنْه حضورك، تُناديك همساً كلّ فجر، وكلَّ مساءٍ: “ما زلتُ ها هنا… ولن أُخلفَ وعدي”.

فامضِ، يا أخي، بثقةِ مَن عرَفَ الحُبَّ في اللهِ رِباطاً لا يُقطَعُ، واذكُرْني حين تغمرُكَ السَّكينةُ بين يدي الرّحمٰن، فثمّةَ دمعةٌ تسري الآن في المآقي، وشوقٌ يمضي في الدّم كما يمضي العسلُ في الأبدان، شهيّاً، دافئاً، صادقاً… لا يُنسى.

إلى لقاءٍ قريبٍ بإذنِ اللهِ تعالى، دُمتُم في خيرٍ وأمانٍ وسلامٍ.

مع تحياتي،
د.غازي منير قانصو
الأحد الواقع فيه ٩ حزيران ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى