المقالات

قعر المرآة – كتب: د. قصي الحسين

لن تبلغ صورة لبنان في العالم، قعر المرآة على الإطلاق. لن تتشوه هذة الأرض، مهما حملوا لها، ومهما حملوا عليها.
لبنان هبة السماء. ينطفئ ويرمد، حين تنطفئ الأرض وترمد.
كفى خوفا وهلعا. كفى تخويفا وتهويلا. كفى تنفيرا من إرث السماء، ما دامت قلادة البقاع، والسعفتان السلسلتان.
أعيدوا النظر بأيديكم. أعيدوا النظر بعيونكم. أعيدوا النظر بنفوسكم. أعيدوا النظر بعقولكم.
هنا مرمى الحجر. هنا السؤال المركزي، لحفظ لبنان وصونه من عاديات الزمان.
أياد قذرة متسخة، تحتاج إلى غسل. وعيون عمياء، كعميان نوتردام. ونفوس مريضة مشوهة، كأنها خرجت لتوها من البيمارستان. وعقول صغيرة، كأحلام العصافير.
الوعي بالوطن، والوعي بالأسس، والوعي بالحياة وبالنمو، من أعمدة الحكمة، للإسراع بإنقاذ لبنان. وإنتشاله من قعر الهاوية.
هاوية فيها مرآة مقعرة، تشف عما فيها. تصفه بدقة. حيث تجد “ماكيت الوطن” اليوم، لا الوطن أبدا.
هي “ماكيت” ينتشر عليها الأقزام، يشار إليهم بالسهام: حفنة مبعثرة في المناحي هنا وهناك وهنالك. تماما مثل الدود في الجيوب الحلزونية. تنخر الوطن من الداخل، مثل أضراس الجراد. وعليهم أعيان بصورة القرود والذؤبان. وحولهم لصوص وسماسرة وصيارفة، يسرقون ويضاربون، بلا حساب.
نريد وطنا، لا ماكيت وطن. نريد لبنان، لا ماكيت لبنان. نريد الجبال ونجومها وقممها ودروبها، لا “مكيت”، يلهو بها تجار العقارات. يعرضونها في المزادات.
إنظروا معي: في “المرآة المقعرة”، كما خرجت من “الرسامين الطبوبوغرافيين”، تجد المناصب المائلة. والكراسي المعوجة. والقامات الهزيلة، والوجوه المشوهة. والعيون والأنوف والآذان، وقد تكسرت الرؤوس الثلاث، فوق بعضها.
تجد الدمى: تجثم. تمثل.تقفز. ، مثل البراغيث، مثل البعوض، مثل الذباب، مثل عثاكيل النمل، على الماكيت في خزانة مهندس أجنبي، يعرض شققا للبيع. أو مزرعة. أو حوانيت للإجار، ليوم أو يومين أو شهر أو شهرين. يعرض علينا وطنا للبيع، للإيجار، للتجارة الحرة. أو لروليت قمار.
لبنان ليس هذا أبدا. في الزمان وفي الكيان. لبنان هبة السماء على الأرض. وطن ساحر الجمال منذ قديم الزمان. قلادة من زمرد وسعفتان من أرز، وصولجان. وعرش للسماء على الأرض.
لبنان، هو غيره، كما نراه الآن في الهاوية، بين أيدي المسوخ، في قعر الهاوية ربما. في “قعر المرآة”. ماكيت بيد الرسامين الصغار، الذين يرسمون الحروب والدروب. ويرسمون الشواطئ والسفن بلا شراع.
لبنان في أيدي، السماسرة والمقاولين، وباعة الأوطان . لبنان في ايدي المغامرين والمقامرين، يخوضون الحروب على “الماكيت”.
هو التشوه، قد أصابه: فلا الرجال رجال. ولا العروش عروش. ولا القلاع قلاع. ولا القصور قصور. ولا الدور دور. ولا الصخور صخور. ولا الأطيار أطيار ولا اليمام ولا هديل الحمام.
لبنان، معروف الداء وموصوف الدواء: أنقذوه من الهاوية. من قعر المرآة. إنشلوه من قعرها. ضعوه أمام مرآة السماء، في الشمس، في العراء، في الحر في القر. أرسلوا إليه النوازل والعواصف، وصبوا على جباله قوالب الثلوج، أثيروا في جهاته الرياح. وسيروا السحاب. يخرج لكم وطنا، آية من جمال.
لبنان في قعر المرآة، غيره تحت مرايا الشمس. إذهبوا إليه، وأخرجوه من القعر. من قفص المقامرين والمغامرين، والسماسرة وتجار العقارات. أخرجوه من الظلمة من، سجف الليل والظلام. فكوا عنه الطلاسم. فكوا عنه الرهان.
لبنان غير قادر أن يلاعب الأسنة. لبنان غيره، ملاعب الأسنة. لبنان غيره “أبو حرب”، وعنترة وأبو زيد الهلالي، والحريب دياب.
حملوا عليه بلا رحمة. رموه في الجب. نادوا عليه، باليتم والقر والحر والجوع. وقالوا له: “حتى تقول سمعا وطاعة”. وحتى تطلب، من نيرون الشفاعة.

أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى