المقالات

التعليم في الزمن الصعب

كتب : فيصل طالب

(المدير العام السابق لوزارة الثقافة )

في أوقات الأزمات والصعوبات تشتدّ الحاجة إلى انخراط أهل التربية في مقارعة الأخطار ومواجهتها، وتصويب المسارات، وتعزيز دينامية التوجّه للاهتمام بمفاهيم الوحدة والتماسك الاجتماعي، وترسيخ قيم التكافل والتعاون، بالارتكاز على ما يفترض أن يقدّمه هؤلاء البنّاؤون لهيكل المستقبل من أعمدة صلبة لا تهزّها الزلازل والأعاصير، وبإدراك عميق بأنّ الحراك التربوي لا يؤتي أكله إِلَّا بالاختمار التراكمي للأهداف المحقّقة في هذا السبيل بالتواتر المرحلي المتدرّج، والمندرجة في قائمة الأهداف التربوية الاستراتيجية المبنية على أساس الاحتياجات الحقيقية الموزّعة على المدى القريب والمتوسّط والبعيد.

ومع اشتداد هذه الأزمات بوجوهها الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحيّة، كما ينبئ بذلك الواقع المعيش، تزداد الحاجة إلى اختراق الأهداف الموضوعة للتعليم بأهداف “اعتراضية” تستجيب لأوضاع طارئة وعاجلة، من خلال تدابير وإجراءات ومبادرات استثنائية خلّاقة وحيوية.

ومع إغلاق المدارس أبوابها، في إطار مواجهة انتشار الجائحة، واللجوء إلى اعتماد التعليم الوجاهي حيناً، والتعليم عن بعد حيناً آخر، تشتدّ أزمة التعليم تعقيداً، ويخسر التلامذة مزيداً من موجبات التربية القويمة ومتطلباتها، خصوصاً مع عدم توافر بنية تحتية رقمية وتكنولوجية تتسم بالجودة والتكامل تتيح لهم مواصلة تحصيلهم العلمي بأقل الخسائر الممكنة، بالمقارنة مع التعلم الوجاهي.

لقد قامت التربية الحديثة على مبدأ أن التلميذ هو محور العملية التعلّمية؛ وما المعلم في هذا السياق سوى محفّز لها ومنسّق ومتابع وضابط لإيقاعاتها. في حين يعود هذا المعلم في إطار التعليم عن بعد إلى الدور الذي كان له قديماً، ليكون هو المحور الذي تدور حوله عملية التعليم برمّتها. وإذا كان هذا الدور القديم للمعلّم قد جعل من التلميذ منفعلاً بالحدث التعليمي أكثر من كونه فاعلاً فيه، فإنّه حفظ للمعلم القدرة على الإمساك بخيوط التواصل مع تلامذته وإبقائهم في حيّز الإصغاء والمتابعة. غير أنّ الأمر ليس هو نفسه في نطاق التعليم عن بعد، حيث إنّ التلامذة، وبسبب عدم حضور المعلم أمامهم، قد يتغافلون عن متابعة شرح الدرس لدواعي المغريات العديدة التي تبدأ باللهو وتناول الطعام والحلويات، ولا تنتهي بالانشغال بتقنيات التواصل الاجتماعي من فيس بوك وواتساب وغيره، ممّا يشتّت انتباههم ويصرفهم عن التركيز الذهني وحسن المتابعة لمجريات العمليات التعلّمية. وما صراخ الأمهات وتبرّمهن من سلوك أولادهن في هذا السبيل سوى دليل حيّ على ذلك، معطوفاً عليه حال الإنترنت وبطئه وانقطاعه المتواتر الذي يتلف أعصاب المعنيين بهذه العملية التعلّمية، تلامذة وأولياء؛ هذا إذا افترضنا أنّ أجهزة الاتصال اللازمة متوافرة لجميع التلامذة في الأسرة الواحدة. ولا يجوز أن ننسى بطبيعة الحال أنّ الجلوس طويلاً أمام شاشات الحاسوب أو التابليت أو التلفون مدعاة للتعب والضجر والخمول. ولعلّ أهم السلبيات المسجّلة في هذا المضمار غياب آليات المتابعة بعد انتهاء الدرس وتقييم القدرة الاستيعابية لدى التلامذة، وهي شروط موجبة لتحقيق النجاح المطلوب للتعليم عن بعد.

تجدر الإشارة إلى أنّ حساب التعليم ” الافتراضي” لم يطابق دائماً بيدر الواقع المعرفي والتكنولوجي واللوجستي والمادي لدى كل الجهات المعنية بهذا الأمر، وخصوصاً في بيئة المدرسة الرسمية. فنحن أساساً لم نعمل على محو الأميّة الرقميّة في هذه المدرسة، ولم نوظّف تبعاً لذلك الثقافة المعرفية الجديدة في عمليات التعلّم الحضوري، وقبل أن نصل إلى استخدامها في التعليم عن بعد. ومع إقرارنا بأن جيل اليوم متصل بهذا العالم اكثر من الكبار، إلا أنّ ذلك تحصّل لدى التلامذة ذاتياً، وبفوارق ملحوظة بين فئاتهم تبعاً للظروف الاجتماعية والاقتصادية والمعطيات المعرفية والثقافية المتوافرة، ومن دون أن يكون إحدى ثمرات التدريس المنهجي النظامي للثقافة المعرفية الرقمية التي تجعل هذا الأمر جزءاً من الأهداف التعلّمية والتربوية.

تلك مشكلة أخرى تُضاف إلى ما تعانيه المدرسة الرسمية في الأساس من صعوبات سبق أن خبرنا أحوالها، وحملنا ولمّا نزل نحمل همومها وشجونها، منذ أن كنّا تلامذة، وعلى مدى العمر الذي تغيّرت أحواله من غير أن تتغيّر أقدارها، وكنّا نتقاسم خبز الأمل بقيامتها لتكون حجر الزاوية في بناء المواطن ورفعة الوطن. لقد حملت هذه المدرسة أعباء المسؤولية في هذا السبيل من غير أن تفتح لها الأبواب على مصاريعها، ومن دون أن تتوافر لها دائماً ما يسهّل عبورها من حالة الركود الى حالة الفاعلية والتأثير المباشر في مجريات التطوير والإنماء في بيئتها، ولتكون رأس الحربة في عمليات التنمية المستدامة، والحيّز الذي تتوافر له ظروف الانصهار الوطني والاجتماعي؛ فضلاً عن كونها ضرورة اقتصادية لأبناء الطبقات المحتاجة، أو هكذا يفترض أن تكون. تُرى هل وقفنا وقفة المتأمل في مسار هذه المدرسة وسألنا أنفسنا بعض الأسئلة المشروعة في سياق البحث عن مفاصل هناتها والتعثّر الذي هي فيه:

– لماذا ما يزال فتح المدرسة الرسمية على محيطها خجولاً إن لم نقل معدوماً، من خلال الأنشطة اللاّصفية التي يفترض أن تتولّاها النوادي المدرسية، والتي تشكّل نقاط استقطاب متبادل بين المدرسة والمجتمع، مما يسمح لهذه المدرسة أن تؤدّي دورها كبؤرة إشعاع في محيطها، وتستكمل العمليات التعلّمية بأبعاد ثقافية تجعل المدرسة للنجاح في الحياة، وليس فقط للنجاح في الامتحان المدرسي أو الرسمي؟!

– هل سعى القيّمون على شؤون التعليم العام للتمرّس المتنامي بقواعد الاحتساب والارتقاب، والالتزام قولاً وفعلاً بموجبات التعزيز الدائم لهذه المدرسة بشراً وحجراً وإمكانات، فوضعوا في هذا السبيل الخطط المناسبة لاستيعاب الزيادات المطّردة لأعداد التلامذة في الأوقات العادية، وكذلك في الأوقات الصعبة والاستثنائية، كما هو واقع الحال شديد التعقيد المتأتي من تداعيات الأزمة الحالية المفتوحة على صعوبات متزايدة، لم يسبق للمجتمع اللبناني أن مرّ بما يماثلها على الإطلاق؟!

– لماذا أُغلقت دور المعلمين والمعلمات في نطاق مهمتها الأساسية، وهي إعداد المعلمين إعداداً منتظماً ودورياً، بناء على الحاجات الموضوعية في العدد والنوع، وأوكلت هذه المهمة إلى كلية التربية من غير أن تفتح هذه الكلية أبوابها لهذه الغاية؟! واستطراداً لماذا استسهلنا اللجوء إلى التعاقد لتلبية الحاجات الناشئة، حتى ليكاد المتعاقدون يصبحون، مع التناقص التدريجي لزملائهم الدائمين المحالين تباعاً على التقاعد، غالبيةَ أفراد الهيئة التعليمية؟

– لماذا لم يتم إجراء التقييم المستمر للموظفين الإداريين والتربويين، واستطراداً للمؤسسات التربوية العامة، ليتمّ تحديد نقاط القوّة والضعف فيها، وليصار لاحقاً إلى تبصّر الحلول الآيلة إلى تحسين شروط العمل، بالاستناد الى تكثيف سبل المتابعة وتقدير النتائج المحققة في نطاق التغييرات أو التعديلات المطلوب إحداثها. ذلك أن هذا النوع من التقييم يقلّل الخسائر الناتجة من تعثّر الأداء أو قصوره عن تحقيق الأهداف المرحلية المتوخّاة، فيعمل على تدارك الأمور قبل استفحالها، ويسدّد مسارها قبل الوصول إلى نهاية الطريق؟

– لماذا لم يجرِ تقييم المناهج التعليمية تقييماً مستمرّاً أيضاً، كما نصّ على ذلك مرسوم إطلاقها للمرة الأولى في العام ١٩٩٧( كل أربع سنوات على الأقل). ومنذ ذلك التاريخ جرى الدخول إلى هذه المناهج بصورة عرَضية أو موسمية، أي غير منتظمة، فكان تخفيفها اجتزاء مرتجلاً وغير مدروس لم تتحقق معه الغاية الحقيقية من المراجعة والتقييم، وهي الاغتناء من تراكم التجارب والخبرات؟!

– لماذاهذا الإهمال المتمادي للجهاز المعني بمراقبة سير العمل في المؤسسات التعليمية الرسمية، وتطبيق المناهج الدراسية، وتحقيق الأهداف التعلّمية والتربوية، عنيت بذلك التفتيش التربوي الذي تزداد شكواه من تراجع عدد مفتشيه، من غير أن يجري ملء كل الشواغر فيه. واستطراداً لماذا هذا الإغفال لدور التفتيش، وهو اللصيق بمجريات العمل المدرسي، في إبداء المشورة للمراجع المختصة في الإجراءات التربوية و تبصّر رؤاها عفواً أو بناء على الطلب، إن من طريق الدراسات أو التقارير التوجيهية أو التوصيات الصادرة عن هيئة التفتيش المركزي؟!

لقد أصبحت الأسباب المتعلقة بتعثّر التعليم الرسمي معروفة ومتداولة من كثرة ما تطرّق إليها الدارسون من داخل الإدارة التربوية ومن خارجها، وكذلك الحلول والتصوّرات ذات الصلة بالنهوض التربوي الذي يحاكي الحاجات والتطلّعات،
ويواكب المستجدات والتطوّرات والنتائج المحصّلة في مجتمعات أصغر من لبنان استطاعت أن تقدّم إنجازات ضخمة في هذا السبيل. ومن غير أن ننسى بطبيعة الحال أن التعثّر التربوي الرسمي في لبنان هو صورة صادقة عن تعثّر
النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد، وأنّ أزمته في هذا الخصوص ليست معزولة عن الأزمات العامة المتدحرجة والمتناسلة من رحم النظام الطائفي الذي هو مصدر كل العلل

نقلا عن موقع Aleph lam

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى