المقالات

الولع بالتنازلات – بقلم: محمد علي الحلبي

من بديهيات العمل السياسي الالتزام بالدقة،والأمانة الوطنية،واختيار الوقت المناسب للتصريح،أو الحديث عن مواضيع محددة تحمل غاية،أو غايات مرجوّة،ومؤملة،وفي أغلب الأحيان يسبق ذلك تحضير لما يُراد إثارته سواء للكلمات المُراد إلقاءها،أو الحوارات التي تجري تحسباً لأي خلل يحرف معنى ومضمون المواضيع المُتحدث عنها،لكن التوقعات التي تلي ذلك من نتائج وردود الأفعال عليها تخضع للنسبية،وعوامل متحركة متفاعلة متعلقة بما جرى الحديث عنه وأثير.
في ضوء هذه الأسس لنقرأ حديث رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السيد محمود عباس إلى القناة الإسرائيلية الثانية، وما أن انتهى منه حتى لحقت به ،ً موجات احتجاجات شعبية غاضبة ومستنكرة،ومن منظمات فلسطينية جهادية بينما راحت ردود لرسميين فلسطينيين محاولة الدفاع عما قيل متفننة في إيجاد التبريرات لها،وتفسيرها على غير ما تضمنته 00000كان واضحاً أن نقاطاً هامة ثلاثا وردت في الحديث:
الأولى    :عند سؤاله إن كان يريد العيش في صفد في منطقة الجليل،وهي البلدة التي عاش فيها طفولته يوم كانت فلسطين تخضع للانتداب البريطاني،فأجاب:”لقد زرت صفد مرة،ومن حقي أن أراها،لا أن اعيش فيها”  وأضاف:  “فلسطين الآن في نظري هي ضمن حدود1967وعاصمتها القدس الشرقية..هذا هو الوضع الآن،وإلى الأبد..هذه فلسطين0000   إنني لاجئ، لكنني أعيش في رام الله، وأعتقد أن الضفة الغربية، وغزة هي فلسطين، والأجزاء الأخرى هي إسرائيل”.
الثانية    :في قوله:”أنا آخر رئيس فلسطيني يريد المفاوضات”.
الثالثة    :ركزّ على”أنه ما دام في السلطة،فلن تكون هناك انتفاضة مسلحة ثالثة ضد إسرائيل”  وتابع:”لا نريد أن نستخدم القوة،ونُريد أن نستخدم السياسة،ونريد أن نستخدم المفاوضات،ونريد أن نستخدم المقاومة السلمية”.

وفي قراءة هادئة،ومتمعنة لهذه الكلمات،والجمل نرى فيها تنازلا  شخصياً عن حق العودة،وتلميحاً لإسقاطه كلياً،واعترافاً ضمنياً بأن الرأي العام الفلسطيني في حالة غليان نتيجة الواقع المأساوي الذي ما زال يعيشه،بينما المفاوضات العبثية طال أمدها ، والانتفاضة الثالثة على الأبواب،ودوره يتركز في تحديها والتصدي لها،ومنعها لأنه آخر فلسطيني يريد المفاوضات،وليس غريباً التناغم في المضمون والزمن بين ما قاله السيد عباس وبين من سبقه،ومن تلاه من المسؤولين الإسرائيليين،ففي23أيار- مايو- من العام الحالي،وفي كلمة اثناء اجتماع حزب(إسرائيل بيتنا)الذي يرأسه “ليبرمان” وزير الخارجية الحالي قال:”إن من يتكلم عن حق الفلسطينيين في العودة فإنه عن وعي،أو غير وعي يقصد تدمير دولة إسرائيل”مؤكداً أن لا مفاوضات حول هذا الموضوع،مضيفاً تأييده لموقف رئيس الوزراء بنيامين نتينياهو بخصوص استحالة عودة إسرائيل إلى حدود1967معتبراً أن أغلبية الإسرائيليين يتبنون هذا الموقف، والنتيجة المستخلصة من هذا الجانب أن بقاء إسرائيل يتناقض كلياً مع حق العودة المدمر لها،أما الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز فلقد أشاد بحديث الرئيس الفلسطيني،ووصفه بأنه شريك شجاع في السلام،وفي بيان أصدره ذكر”كلمات عباس الشجاعة تثبت أن إسرائيل لديها شريك حقيقي للسلام،وهذه كلمات مهمة يجب أن نتعامل معها جميعاً بأكبر احترام ” ، إلا أن بول هيرشسون المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية كان أشد وضوحاً إذ قال:”إذا كان يريد أن يرى صفد،أو أي مكان آخر في إسرائيل فإنه يسعدنا أن نريه أي مكان”   وأضاف:   “نظراً لأن عباس ليس مواطناً إسرائيلياً فليس من حقه العيش في إسرائيل..نحن نتفق على هذا”، ولإيراد المزيد من الحقائق المؤكدة لوجهة نظرنا بأن السيد عباس عنى كل كلمة قالها،فتاريخ القضية الفلسطينية يؤكد،ولا يدع مجالا ًللشك بأن مواقفه التي اتخذها كانت في الاتجاه المعاكس للمقاومة متبنياً الحلول التفاوضية حتى أغرم بالتنازلات،وبات شديد الولع بها،ففي عام1989وقبل التوقيع على ما سمي باتفاقية السلام شارك في مباحثات سريّة بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال وسطاء هولنديين،وقام بتنسيق المفاوضات اثناء مؤتمر مدريد للسلام،كما أشرف على المفاوضات التي أدت إلى اتفاقية أوسلو الحاملة لكل ما يسيء للفلسطينيين وقضيتهم،ورغم كل إجحافها  ,   فعبارة التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين الواردة ضمن بنودها زادتها بعدا عن المعاني والقبم الوطنية فاتفاقية  طابا عام  1995 كشفت ما أريد منها فكان من نصوصها  “أ ن على السلطة الوطنية منع الإرهاب،والإرهابيين،واتخاذ الإجراءات بحقهم” أي على السلطة منع المقاومة الفلسطينية،كما نصت أيضاً على عدم ملاحقة من عملوا مع إسرائيل على مدى السنوات،وعدم الإضرار بمصالحهم، وهكذا ألزمت السلطة بملاحقة المقاومة،وغض النظر عن العملاء والجواسيس،وفي معرض حديثه لصحيفة (الأيام) الفلسطينية رداً على الأصوات الداعية لوقف للتنسيق الأمني قال:”هذا كلام فارغ عندما يكون لدينا أمن فهذا لمصلحتنا،والتنسيق الأمني ليس لطرف واحد فقط” واصفاً الدعوات بأنها مزايدات رخيصة  ،  وتتوسع دائرة التآمر،ويزداد الطين بلة عندما يكشف عنها محضر الاجتماع السرّي لمحمود عباس،ومحمد دحلان مستشار الأمن القومي السابق  مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون،وضباط من الاستخبارات الأمريكية،وقد وزّعه أمين سرّ اللجنة المركزية العليا لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فاروق القدومي،وقال:”إن الرئيس الراحل ياسر عرفات أودعه لديه  قبل وفاته،وتم التخطيط فيه لاغتيال عرفات،وقيادات أخرى”  وقد تركز النقاش فيه  يومها على طلب شارون العمل لقتل كل القادة العسكريين،والسياسيين لحماس وكتائب الأقصى،والجهاد،والجبهة الشعبية حتى تحدث فوضى تساعد قيادة السلطة وتمكنها  من الانقضاض عليهم ، وفي ردّ لدحلان قال:”قدمنا لكم مخططنا،وأعطيناكم إياه وللأمريكان مكتوبا00000يجب أولا ًأن تكون هناك فترة هدوء حتى نتمكن خلالها من إكمال إطباقنا على كل الأجهزة الأمنية والمؤسسات”
وفي معرض الحديث يطلب شارون قتل عرفات مسموماً،لكن عباس يرد:”إن مات عرفات قبل السيطرة على الأرض،وعلى كل المؤسسات،وعلى حركة فتح وكتائب الأقصى،فإننا سنواجه مصاعب كثيرة مضيفا الخطة أن نمرر كل شيء من خلال عرفات،وهذا أنجح لكم ولنا  ” ويبرز دحلان مواهبه غير الوطنية في قوله لشارون:”لو طلبت الآن مني أخطر خمسة اشخاص فإني أستطيع أن أحدد لكم أماكنهم بدقة،وهذا يمهد لردكم السريع،أو معرفة أي عمل يقومون به ضدكم،وأنا مع قتل الرنتيسي،وعبد الله الشامي لأنهم القادة الفعليين لحماس والجهاد،ويعود أبو مازن ليؤكد على العمل من خلال الهدنة حتى نسيطر على الأرض،وعندها لن نسمح لسلطة غير السلطة أن تكون موجودة على الأرض” , وخلال الحوار  قال شارون : “إن  أبا مازن  كان ينصحنا بأن لا ننسحب قبل تصفية البنية التحتية للإرهاب”فيرد عليه ّ:”نعم نصحتكم بذلك،ولكنكم لم تنجحوا حتى الآن،وكنت أعتقد أنكم ستنجحون بهذا الأمر سريعاً”

هكذا تتضح الكثير من الشواهد المشيرة إلى عقم هذه المسيرة، و الشبهات حولها،وأن حصائدها لن تكون فيها أية بارقة أمل لا للفلسطينيين،ولا للأمة العربية لأنها لم تخرج فقط عن الخط الوطني،بل تخلت عن كل الشرائع الدينية والوضعية، فوفق الرؤية الشرعية في ثبات حق العودة للاجئين عام1948والنازحين عام1967الذين زاد عددهم عن خمسة الملايين الذين يعيشون مشتتين في الدول العربية والغربية   ,  يورد الكاتب خباب بن مروان الحمد في مقال له حول أهمية بل قدسية حق العودة  قوله تعالى:”أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق  إلا أن يقولوا ربنا الله”الآيتان39-40 من سورة الحج،والآيتان الكريمتان نزلتا بعد هجرة المسلمين إلى المدينة لكنهما تحملان كل معاني الديمومة في وجوب الحفاظ والتمسك بالحقوق ،والرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه :”من قُتل دون ماله فهو شهيد،ومن قُتل دون أرضه فهو شهيد” ، والسيد المسيح عليه السلام يقول:”تعرفون الحق،والحق يحرركم”.
كما أن حق العودة منصوص عليه في التشريعات الوضعية لاسيما منها الأممية  فالميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر في11كانون الأول- نوفمبر-  1948  شدد عليه , كما أن مفهومه ينطبق على كل فلسطيني وفلسطينية،وعلى ذريتهما مهما بلغ العدد،ولا يسقط بالتقادم،والإقرار به جاء أيضاً في القرار رقم194تاريخ11/12/1948و الفقرة 11 منه نصت بأن الجمعية العامة تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم،و العيش بسلام مع جيرانهم،ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم،وكذلك عن فقدان،أو خسارة،أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون،ومما تجدر ملاحظته أن التعويض ليس فقط لغير الراغبين في العود،بل وللعائدين أيضاً عن الأضرار التي تسبب بها العدوان،ويظهر بوضوح أن النص عنى أن الخيار لصاحب الحق في العودة وليس بغيره أن يقرر نيابة عنه،أو يمنعه،وبذا ألغى أي قرار يتخذ من أي جهة تحرم اللاجئين عن حقهم،والجمعية العامة للأمم المتحدة اشترطت لقبول إسرائيل الانضمام إليها ذلك أيضا، فجاء قرارها رقم273أنه بناء على تعهد إسرائيل بتنفيذ القرار  194أبدت موافقتها عليه ،   كما وأكدت في قرارها 3236 عام1974 بذلك،وبأن هذا الحق غير قابل للتصرف .
الوضع الفلسطيني الحالي  لا يبشر بأي خير للجميع, التنسيق الأمني مستمر،وطالما أنه مستمر فلا مجال للمصالحة الوطنية بين السلطة وفصائل المقاومة في غزة،والاجتماعات التي عقدت لذلك غمرتها العبثية والدجل،ومنظمة التحرير ومؤسساتها جمدت،ولم يعد لها من دور،وأحاديث عديدة دارت عن إعادة تكوين لها بدخول فصائل مقاومة باتت موجودة على الأرض لكن لا تمثيل لها،وأخرى عفا الزمن عليها وانتهى دورها،والمجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب ركن في زوايا النسيان بعد انفصال الضفة وغزة،وقد اعتقل رئيسه عزيز دويك لفترة طالت مع بعض النواب لكن الرئيس يمدد لوحده مدة رئاسته بعد أن انتهت منذ عامين،وبالمقابل فالاستيطان الإسرائيلي يتوسع في الضفة،وأكثر في القدس للتأكيد عن عدم عودتها،وتحالف أعلن عنه بين نتينياهو اليميني وليبرمان اليميني المتشدد أي بين حزبي الليكود وإسرائيل بيتنا لخوض الانتخابات القادمة،واستطلاعات الرأي تشير إلى إمكانية تحقيقهما نتائج فوز جيدة،فالأفكار اليمينية أصبحت المسيطرة على أغلب الإسرائيليين،وما هو قادم سيكون أقسى،وقد تشتعل المنطقة بحرب،أو بحروب مدمرة،فالتوجه اليميني  الجديد يضيف إلى لائحته احتمال ضرب المفاعلات النووية الإيرانية،وإن ضعف هذا الاحتمال  مرحليا بعد فوز أوباما بالرئاسية لدورة ثانية ،والتعنت في التوسع على الأرض ما يزال قائما ومستمرا بكل السبل والوسائل.

ومن أجل كل ما ذكرناه،فالتحرك بات مطلوباً لتغيير استراتيجية القيادة الفلسطينية  وطرق عملها،ولعودة القرار الفلسطيني إلى أصله ليكون قراراً عربياً يتمسك بالثوابت الوطنية،ويعمل بجد،وبلا كلل لتحقيقها في أطر زمنية مبرمجة،وموحدة، رجاء قد يكون من الصعب تحقيقه في الظروف الحالية لضعف وتخاذل الأنظمة الرسمية , لكن ذلك لن يفقدنا إيماننا   بالحكمة القائلة :
“الحق بلا قوة تدعمه لا وجود له، والقوة بلا حق يدعمها آيلة إلى زوال”.
أصوات راحت تتعالى قائلة ”   أما آن لهذا المتنازل أن يترجل “

محمد علي الحلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى