المقالات

كبة الرئيس فرنجية – د. قصي الحسين

تعود معرفتي ب”الكبة الزغرتاوية” إلى عيد المعلم من شهر آذار1977. كنت يومذاك مدرسا بمدرسة الصلاح للبنات بطرابلس- أبي سمراء، التي إلتحقت بها في الثاني من شباط من العام نفسه، مغادرا مدرسة قريتي مشتى حسن، لظروف أمنية تتعلق بي شخصيا. أودعني رئيس دائرة التربية في الشمال، الأستاذ رياض بيضون هذة المدرسة، لتدريس العربية في الصفوف التكميلية. قال لي: أريد أن أبيض وجهي مع هذة المدرسة، بأستاذ للعربية، فلا تخيب أملي بك.

توطدت معرفتي بالزملاء والزميلات، وكذلك بمديرة المدرسة السيدة دعد شهال. وما هي إلا أسابيع، حتى أطل علينا عيد المعلم. إختارت المديرة بالتشاور مع الناظرة الاستاذ منى تتونجي، أن نتغدى في إهدن، إحتفاء بهذا اليوم، بعد القطيعة الطويلة، بين زغرتا وطرابلس، طيلة حرب السنتين.

كنا على الغداء، أكثر من ثلاثين مدرسا ومدرسة. وعندما وقف النادل قبالتنا، يريد معرفة ما نرغب بطلبه على المائدة، كان الإجماع على الكبة الزغرتاوية، بنوعيها: “جاط الكبة النيئة” و”قراص الكبة المشوية”. أما أنا فخرجت عن الإجماع: طلبت الفروج المميز المشوي على الفحم. فصاح الجميع: في إهدن، لا تطلب لنفسك، إلا “الكبية النية” والقرص المشوي. ثم خذ بعد ذلك ما تريد.

عندما تذوقت “الكبة النية”، وافقت الإجماع المدرسي. وحين تذوقت “القراص”، وجدت أن الكبة الزغرتاوية تتفوق على “كبة ستي”. ظلت هذة النصيحة في بالي، كلما زرت “إهدن- زغرتا”. خصوصا بعدما عودني عليها الصديق الزميل د. خليل الدويهي، من يد والدته، حين كنت أذهب لزيارته. وما إستطعت نسيانها من بعد على الإطلاق.

لا أريد أن أصف “الكبة الزغرتاوية”، كما تذوقتها أنا. ذلك أنني إعتدت عليها، بعيد عيد المعلم، و بعد التوبيخ الذي نلته من الزميلات والزملاء. خصوصا وقد صار ذلك تقليدا شخصيا وعائليا، في زياراتي لإهدن- زغرتا.

أود أن أتحدث عن “الكبة الزغرتاوية” بعيون أهل الجنوب، الذين إشتهرت عندهم “الفراكة”: “الكبة المدقوقة” على البلاطة. والتي كنت تذوقتها في بلاد الجنوب، حين كنت أدرس في مدرسة “طيرفلسيه” الرسمية العام الدراسي (1969- 1970).

كنت مرة في حلقة عصام العبدالله، في مقهى “لينس”، في فردان- بيروت، أيام العز. كان الأستاذ نعيم فاعور، قد غاب عن الحلقة ليومين. سأله عصام العبداله، إبن عمته، عن غيابه. قال: كنت في الخيام. رد عليه: إذن هات علبة الدخان. أخذها منه. أشعل سيكارة . قال له: أكلت “فراكة” بالخيام. فهز نعيم رأسه: أن نعم. وأضاف: كانت لذيذة للغاية.
خطف عصام العبدالله الحديث كعادته. عاد بذاكرته، إلى سنوات رئاسة الرئيس سليمان فرنجية. ذكر أنه كان مع زملائه في الوكالة الوطنية للأنباء، على مائدة الرئيس في إهدن. وأراد أن يصف “شختورة الكبة النية” التي قدمت للرئيس.

قدم-كعادته – بوصف الرئيس: الكنزة البيضاء من الموهير الأخاذ. والعرقية السوداء التي كان يعتمرها. والسبحة السوداء والشرابة المميزة بيده. والمائدة الرئاسية التي قدمت للضيوف. وتوقف مليا عند “شختورة الكبة النية” للرئيس.

قال: إن الشختورة حملت وحدها على صينية نحاسية مميزة. كان شختورة صينية بيضاء أخاذة. وضعت أمام الرئيس. فهرع نادل مميز فسكب في الشختورة زيت الزيتون الأخضر. ملأ الشختورة إلى ثلثها. ثم بادر النادل الآخر بإزائه. أسقط من دفة بيده “الكبة النيئة”، وفوقها تربينة من ورق النعناع الأخضر المميزة بشكلها ولونها. زحلت الكبة النية الزغرتاوية الهوينى الهوينى. سبحت فوق زيت الزيتون الأخضر الذي عطرت رائحته المائدة. وإرتخت في وسط الشختورة قطعة من الكبة النية الزغرتاوية الئاسية المميزة.

كانت شختورة الكبة النية الرئاسية، آخر ما قدم أمام الرئيس. وآخر ماقدم على المائدة التي ضربت على شرف الزملاء المدعوين من الوكالة الوطنية للأنباء.

إنغمسنا جميعا في تناول الطعام بحياء. بإرتباك. بشغف. بتردد. بهيبة رئاسية. بخجل حيي.

وأمسك فخامته عن الطعام فجأة، ونحن في عز الإنهماك، والإنهمام به. وأشار بيده، للنادل الذي كان خلفه برفع المائدة. فأمسك الجميع تأدبا، كأننا على مدفع الإمساك في رمضان. وطارت قلوبهم وراء صحون المائدة الرئاسية، تتبع على وجه الخصوص، شخاتير الكبةالنيئة الزغرتاوية الرئاسية. فظلوا يتحدثون عنها، كلما إلتقى إثنان منهم على مائدة. وكلما ذكر أمامهم الرئيس فرنجية. وكلما تذكروا الكبة النية الزغرتاوية.

كان عصام العبدالله، كلما أسهب في وصف المائدة يعود إلى شختورة الكبة النية أمام الرئيس فرنجية، فتتلمظ شفتاه طعمها ونكهتها. ويصغي بأحاسيسه الداخلية إلى لونها المميز، كأنها خارجة للتو من جرن الحجر الإهدني بلونه المميز، على إيقاع المدقة.

الكبة الزغرتاوية عند الرئيس فرنجية، في ربيع إهدن الرئاسي، أنسى عصام العبدالله، “فراكة” أمه في بلدته الخيام أنسته أيضا حليب الرضاعة. لأنه ظل طيلة حياته كلها، بعد تذوقه للكبة النية الزغرتاوية – الإهدنية، قرما إلى اللحم، كراعي مارون عبود. فكان يحدث عنها، رأي العين والقلب والشفتين، وكأنها لا تزال أمام عينه: كبة زغرتاوية- إهدنية، فيها طعم لا ينسى، من عدن.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى