المقالات

فيينا.. والخروج من جهنّم – كتب: كارلوس نفاع \ المصدر : جريدة الجمهورية

تتسارع الأحداث على الحدود الاوكرانية- الروسية في سباق واضح مع الدخان الأبيض الذي سيعلن الاتفاق النووي الجديد من فيينا. فالروس لن يقبلوا ان تخرج إيران منفردة من تحت سندان العقوبات، أما الكل أو لا احد. في حين تحسبت الصين للتداعيات مسبقاً، فحجزت الأموال الإيرانية التي قد يُفرج عنها عبر ورقة تفاهم اقتصادية عسكرية لمدة 25 سنة، ومن هنا إصرار الإيرانيين للحصول على ضمانات اقتصادية من طاولة فيينا، لقاء تخلّيهم عن التوجّه شرقاً، وتحوّلهم الى قاعدة صينية جديدة تنطلق منها الصين بهدوء لقضم ما تمكن من موانئ وخطوط سكك حديد لبناء الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديد. وهي اليوم تتقدّم نحو منطقتنا، وعينها على لبنان وخصوصاً على طرابلس بوابة المشرق الجديد، والتي زارتها وفودها الاستقصائية الأربعة علانية، معتبرة إيّاها الباب الغربي لأوروبا، وقاعدة ارتكاز لمرفأ بيرايوس في اليونان التي استحوذت عليه أخيراً. وفي المقابل تعتبر الإدارة الاميركية طرابلس منطقة حيوية لا بديل عنها، لربط النفط والغاز العراقي والسوري واللبناني بالإمدادات الأوروبية، ولمراقبة القوات الروسية المرابطة في الساحل السوري، وضبط حركتها ولشبك قواتها في البحر المتوسط والعراق وسوريا. من هنا يدرك الروس والأتراك خطورة فتح الأبواب للصين، وهم في قلب الأزمات الاقتصادية، وخصوصاً أنّ خط «تاناب ونورد ستريم 2» أصبحا ضمن دائرة الاستهداف الأميركي المباشر، لأنّهما يحرّران أوروبا من الإمدادات الأميركية للطاقة، ويعطيان لتركيا الحجة للتوسع في جمهوريات بحر قزوين، ولروسيا مداخيل تمكّنها من ابتلاع أوكرانيا واخواتها.

من هنا يكتسب لبنان من بوابة طرابلس، فرصة تاريخية جديدة، وهي التي ولدت باسم يوناني، Tripolis Τρίπολις، أي المدن الثلاث، كأول اتحاد مدني حيادي على الساحل الفينيقي بين كل من صور وصيدا وارواد، دون أن تقف صراعات الآلهة الخاصة بكل منها عائقاً امام ان تصبح المدينة سوق الاسواق الحرة على الساحل الشرقي للمتوسط لعصور عدة، وعاصمة للاتحاد الفينيقي.

فتحقيق حياد لبنان الإيجابي الذي دعت اليه بكركي عبر اتفاقية دولية، يجنّب لبنان الصراعات الدولية المستجدة، ويجعله ساحة تعاون ولقاء لا ساحة صراع مستدام، ويسمح لأن تكون طرابلس عقدة للنفط والغاز للمشرق عبر مصفاة البداوي، ومنطقة للتجارة الحرة عبر معرضها الدولي، ومرفئها الإقليمي الذي يجب أن يرتبط بشبكة ممرات «الاسكوا» لسكك الحديد التي خُطط أن تربط الخليج العربي والعراق وسوريا بحلول سنة 2025. لهذا تطبيق لبنان اتفاقية ممرات الاسكوا التي وقّعها عام 2003 عبر ربط طرابلس اولاً، يجعل المدينة من جديد مدينة المدن وباب النهضة. فهذا الحياد يسمح للمدينة بأن تكون سوق الاسواق، وقبلة تدفق الاستثمارات التي تُخرج لبنان من الانهيار، وتعيد المصارف الى الحياة، وتعيد أموال المودعين، وتحقق التوازن دون السقوط في أتون الاشتباك الاقليمي والدولي.

من هنا نفهم رفض القوى التي تعيش على الارتهان للخارج، كل الخارج، الحياد الفاعل وما انهيار هذه القوى ورموزها إلّا بداية لرحيلهم.

الكل فقد دوره وعليه التسليم، والرحيل قبل أن يُرحّل، كما حصل سنة 1861 حين رُحّلت رموز تلك الحقبة، وحُجزت أموالهم، ووُزعت على الناس على شكل تعويضات عمّا لحق بهم في مجازر 1860، وحينها بدأ التخطيط على إنشاء مرفأ بيروت وسكة حديد الشام بوابة لدمشق، ولتجارة الحرير نحو أوروبا. أما اليوم، فالغاز هو الحاجة الاوروبية الاستراتيجية، ولا إمكانات لربط المشرق بها الّا من أبواب طرابلس في لبنان الحياد.

وما ربط لبنان عبر طرابلس بإمدادات الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا، بأمر أميركي، إلّا أول الغيث، والذي استُتبع بالمبادرة الكويتية التي لوّحت بحبل الخلاص الاقتصادي ضمن سلة حياد تحت سقف دستور الطائف. وما سقوط الصواريخ هنا وهناك إلّا نداء ايرانياً لفتح باب الحوار العلني من باب إعلان المطالب للشراكة السياسية والاقتصادية. فمن يعتقد أنّ الخليج هو اولى الاولويات الايرانية، فعليه ان يمحص في انغماسها أكثر وأكثر في بحر قزوين وفضائه الجيوسياسي التاريخي، وذلك لتحمي نفسها من عاصفة التقسيم التي بدأت تتلبّد من تركيا الى باكستان، مروراً بها، والتي قد تعصف بالإقليم، لكي تقطع خط إمدادات الطاقة وطريق الصين نحو أوروبا. فالاتفاق النووي أصبح لزوم ما لا لزوم له، وانتصار تأخّر جداً. فالعالم تغيّر، وأعادت الجغرافيا السياسية ايران لتواجه احتمال ظهور جديد لمحمود خان الذي أنهى الدولة الصفوية عام 1722م. فعلى عكس أحلام البعض في الداخل المنتشي بالقوة، أو مخاوف البعض الآخر المحبط، فإنّ إيران تدرك أنّها لا يمكن ان تستمر في المنطقة بدعم اذرعها على حساب وجودها الذي بات في خطر حقيقي، من أبواب بحر قزوين ومن الداخل الذي يرزح تحت ثقل العقوبات الاقتصادية، والتي حتى لو رُفعت لن يكون أثرها مباشراً، لأنّ الجهد العسكري الذي تحتاجه إيران لدرء المخاطر الجديدة سوف يبتلع كل شيء من جديد.

الحياد السياسي انطلق من ضفاف بغداد التي اعلنت انّها لن تكون ممراً ولا مقراً. والتهدئة تنسحب كالنسيم على كل المنطقة رغم ضجيج المهمشين. التحدّي الأكبر لنجاح الحياد الجديد، هو عيش المواطنة الدامجة، التي لا تستثني أحداً، بحيث يكون التنوّع باباً لاختبار الهوية التعددية التي تصنع وطناً اخضر عادلاً ومزدهراً.
Monday, 07-Feb-2022 06:56

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى