التحقيقات
أضواء على معاني الحداثة في الشعر – د. محمد حبلص

حدث الشيء يحدث حدوثاً وحداثةً، وأحدثه، هو فهو مُحْدَثٌ وحديث. والحدوثُ: كونُ الشيء لم يكن. وأحدثه الله فحدث( ).
من هذا المفهوم للحداثة في اللّغة يتبيّن لنا أنَّ الحداثة في الشعر تعني وجود كتابة شعريّة جديدة لم تكن موجودة من قبل، كتابة جديدة تؤدّي إلى صنع قصيدة شعريّة جديدة من حيث الشكل والمضمون واللغة الشعريّة. ووِفْقَ هذا التعريف للحداثة الشعريّة تمَّ وجودها في الشعر العربيّ، وكان لوجودها أسباب سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة وصناعيّة وفكريّة… الخ. فإثر إنكسار الإمبراطوريّة العثمانيّة تعرّضت المنطقة العربيّة لاحتلال جديد أتاها من أوروبا، وقد وقع المشرق العربيُّ تحت هيمنة الإحتلالين الإنكليزيّ والفرنسيّ ما جعل العرب يفكرّون بالأخطار المحيطة بهم، الأخطار التي تهدّد كيانهم وتاريخهم ومعتقداتهم. في تلك الآونة من المرحلة الإستعماريّة الأوروبيّة لبلادنا، مهَّد المستعمرون الإنكليز في فلسطين لمجيء اليهود إليها، ثمّ ساعدوهم في إقامة دولة يهوديّة (إسرائيل) على أرضها، وقد أُعلنَ قيامُها في عالم ألف وتسع مائة وثمانيةٍ وأربعين، وهو العام الذي سُمِّيَ عام النكبة، فأصيب إثر ذلك المجتمع العربيُّ بصدمة وذهول، وخاصّة الشعراء والأدباء والمثقّفين الذين أيقنوا أنّ اغتصاب فلسطين على أيدي الإنكليز واليهود لم يكن لولا تخلّف العرب عن الحداثة في كلّ الميادين، فحين أراد الشعراء العرب أن يعبّروا عن الواقع العربيّ الحديث من الناحية السياسيّة والسياديّة وجدوا أنفسهم مقيّدين، غير قادرين على التعبير وِفْق الأسلوب القديم في الشعر العربيّ، من هنا جاءت ضرورة الحداثة في الشعر ليصبح حركةً متماشيةً مع الواقع العربيّ، معبِّرةً عن حاله وهمومه، وكان أول مَنْ خطا الخطوة الأولى من الشعراء العرب في طريق الحداثة الشعريّة هو الشاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب الذي ثار على التقليد الشعريّ ثورة جريئة، فأحدث التفعيلة في العروض، ووضعها مكان البحر، ليستعيض بالجملة الشعريّة عن البيت الواحد. فوُجِدَ الشعر العربيّ الحديث، أو الشعر الحرّ، أو شعر التفعيلة الذي من مزاياه حلول الجملة الشعريّة محلَّ البيت الشعريّ، وتنوّع الرويّ بدل الإلتزام برويٍّ واحد، والمزيّة الكبرى هي الإنفلات من قيود القافية التي اعتبرها الشاعر العربيّ نزار قبّاني بمثابة إشارة المرور التي تفرض على السائق أن يوقف سيّارته، وهي في أقصى سرعتها، ليعاود الإنطلاق بها من جديد بسرعة بطيئة. وبالإضافة إلى المزايا الشكليّة للشعر الحديث هناك مزايا تتعلّق بالمضمون، فالشعر الحديث مضامينه جديدة جاءت لتلائم الواقع العربيّ الجديد؟ ولغته بالتالي لغةٌ جديدةٌ، تعبِّر عن هموم الشاعر المتراكمة، وتخاطب وعي المواطن العربيّ الذي يعيش أجواء النكبة والإحتلالات.
إنّ بدر شاكر السيّاب أراد أن يصوّر في نصّه الشعريّ الواقع العربيّ والواقع الإنسانيّ الجديدين، فرأى لزاماً عليه أن يكون شاعراً مُحْدِثاً، فكان منه أن أوجد نظام التفعيلة الذي يُعتبرُ نظاماً عروضيّاً جديداً، قد أغنى حركة الشعر العربيّ، وفعَّلها، وطوَّرها، وقد مشت إلى جانب السياب في طريق الحداثة زميلته الشاعرة العراقيّة نازك الملائكة إلى أن اصبحت حركة الحداثة في الشعر العربيّ حركة شاملة متَّبعة، ولكنّ السيّاب الذي ابتكر نظام التفعيلة لم يتخلَّ كلياً عن العمود الشعريّ، فقد ظلّ الشاعر يكتب الشعر العموديّ وشعر التفعيلة معاً، وهذا ما نجده عند نزار قبّاني ومحمود درويش، وعبد الوهّاب البياتي وغيرهم.
وأنتَ أيّها القارئ تجد الحداثة الشعريّة موجودة في القصيدة الشعريّة السيّابيّة الحديثة والعموديّة معاً، وهذا يؤكّد أنَّ الحداثة الشعريّة ليست زيّاً وِفْقَ ما أبداه يوسف الخال في نصّه (الحداثة نظرة حديثة إلى الوجود).
إنّما الحداثة هي مواكبَةُ الحياة ومخاطَبَتُها، وهي بالتالي موكَبَةُ الزمن. فالحدث في آنهٍ يكون حديثاً، أمّا في الغد، فهو يُصبح قديماً من الماضي، وهذا ما عبّر عنه يوسف الخال في نصّه المذكور آنفاً: (كلّ حديث بمرور الزمن يُصبح قديماً)( ).
ولكنّ هذا الرأي ليوسف الخال يدفعنا إلى إبداء رأينا في معنى الحداثة، فنحن نقول: إنّ كلَّ شيء حديث يصبح بمرور الزمن قديماً إنْ هو تخلّف عن مواكبة الحياة، وقصّر عن سرعة الزمن، فعلى سبيل المثال قد تكون القصيدة الكلاسكيّة القديمة قصيدة حديثة في عصر جديد حديث، إن هي خاطبت أهله وتلاءمت مع أفكارهم.
فالقصيدة العباسيّة قد تنطبق عليها مفاهيم الحداثة الشعريّة في عصرنا، إن هي خاطبت وعينا، وصلحت لواقعنا، من هنا يجب علينا ألاّ نكون متزمّتين في نظرتنا إلى الحداثة، وألا نحصرها في فترة زمنية محدّدة، لأنَّ الحداثة في كلِّ وقت، وفي كلِّ عصر. فامرؤ القيس هو شاعرٌ حديث عند الجاهليين، وخليل مطران، هو كذلك، شاعرٌ حديث ومُحدِث عند النهضويين، وهذا الرأي هو ليوسف الخال، ولكن نزيد عليه رأينا، وهو أن امرأ القيس الحديث في عصره قد يكون شاعراً حديثاً في عصرنا، إذا خاطب شعره إحساسنا ووعينا، وواكب حياتنا، لأنَّ الحداثة في الأصل هي عقليّة وليست زيّاً، فليس التلفزيون والكومبيوتر والسيّارة… الخ، وِفْقَ رأي يوسف الخال، جوهر الحياة؛ إنّما جوهر الحياة تلك العقليّة المنتجة المُحدِثة التي أحدثت من الآلات ما لم يكن موجوداً من قبل، وهذه الآلات الحديثة نفسها تصبح قديمة بوجود آلات أخرى هي أكثر منها حداثة وتطوّراً من حيث الطراز، وتبقى العقليّة الصناعيّة المنتجة وحدها التي تؤدّي إلى حصول فعل الحداثة.
من هنا نحن متفقون مع يوسف الخال في اعتباره أنَّ الحداثة عقليّة، وإلا إذا فهمنا الحداثة بأنّها تعني التغيير، ولو اقتصر على الزيّ والشكل، فهذا يؤدّي إلى الغاء الأصول، فيصبح الفنّ الأصيل القديم رغم أصالته فنّاً مرفوضاً في أيّامنا،
والفنّ الحاليّ فنّاً مقبولاًَ ورائجاً رغم سذاجته، وانحطاطه، وسقوطه، وذلك بسبب فهمنا الخاطئ للحداثة.
والذي لا بدّ من التنويه به في هذه الدراسة، هو أنَّ الحداثة ليست مقتصرة على الشعر والأدب وحدهما وحسب، وإنّما الحداثة هي في كلِّ شيء، هي في الطعام واللباس، وفي ممارسة الأعراف الإجتماعيّة، هي في الإيمان، والتعبّد، والثقافة، والسياسة، والفنّ، والعمارة، والصناعة… الخ. وقد أصاب يوسف الخال، إذا اعتبر أنَّ الحداثة هي نظرة حديثة إلى الوجود، لأنّ الحداثة، في الحقيقة، هي تعبير شعريّ عن حال رؤيوية جديدة يعيشها الشاعر حيال الوجود، لهذا يُعتبر الشعر الحديث هو ذاك الشعر الذي يرى الوجود رؤيةً جديدة، ويخاطب الحياة خطاباً جديداً مواكباً حركة تطوّرها، وقد سُمِّيَ السيّاب برائد الحداثة ومبتكرها في الشعر العربيّ، لأنّه أدرك معنى الحداثة في الشعر، فعمل على تجلّيها وتأكيدها في شعره، فقد استطاع هذا الشاعر أن يوجد شكلاً جديداً لقصيدته، وهو شكل مغايرٌ للشكل العموديّ، ثمّ أوجد بالتالي الموضوع الشعريّ الجديد الذي يرتبط بالأرض والوطن ارتباطاً وثيقاً، يحاكي الواقع العربيّ خير محاكاة، ثمّ هو بالإضافة إلى هذين العنصرين، عنصر الشكل وعنصر المضمون، قد أوجد لنفسه لغة شعريّة جديدة توائم الواقع الجديد وتواكبه، وتتحدّث عن المستقبل، قد أوجد لغة شعريّة استطاعت أن تُعبّر عن هموم الأمّة وطموحاتها، وأن تقيم علاقة فاعلة بين تاريخها، وحاضرها، ومستقبلها، لغةً شعريّة مشبعة بالثقافة السياسيّة، والعقائدية، والقوميّة، والحضارية، وتعبّر عن القضايا الإجتماعيّة والمشكلات الحياتيّة بحيويّة مفعمة بالإبداع، ومثال هذه اللّغة يتجلّى في قول السيّاب: (مطر مطر مطر/ وفي العراق جوعْ/ وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ/ لتشبع الغربان والجراد/ وتطحن الشوانَ والحجرْ/ وحتى تدورُ في الحقول حولها بشر/ مطر مطر مطر/ في كلِّ قطرةٍ من المطر/ حمراءُ أو صفراءُ في أجنّة الزَّهرْ/ وكلِّ دمعةٍ من الجياع والعراة/ وكلِّ قطرةٍ تُراقُ من دم العبيد/ فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديدْ/ أو حلمةٌ تورّدت على فم الوليدْ/ في عالم الغد الفتيّ، واهبِ الحياة)( ).
إنّ الذي دفع السياب إلى إستخدام هذه اللّغة الشعريّة هو الواقع العربيّ السياسيّ الإجتماعيّ الجديد الذي شهد أحداثاً خطيرة ومريعة جداً، فلم يعد بمقدور الشاعر العربيّ أن يعبّر عن الحاضر بلغة الماضي، فهو إنْ فعل هذا، وعبّر عن الحاضر بلغة الماضي، حينئذٍ ينطبق عليه قول أدونيس: (ونمضي صدورُنا إلى البحرِ وفي كلماتِنا يرقدُ نحيبُ عصرٍ آخر وكلماتُنا لا وريث لها)( ).
وحتّى يكون الشاعر مُحدِثاً يجب أن نسمع في لغته الشعريّة بكاء أبناء فلسطين، وقانا، وكلّ العرب المتألمين، أمّا إذا أسمعنا الشاعر في لغته الشعريّة بكاء الذين ماتوا منذ مئات السنين، فحينئذٍ يكون شاعراً سلفيّاً متخلفاً عن الحداثة وحركتها تخلّفاً بعيداً. لهذا فنحن قد نجد شاعراً محدثاً وآخر سلفيّاً متخلِّفاً يعيشان في الحقبة الزمنيّة نفسها، ويأتي في وضع كلِّ واحد منهما في خانته توافقاً مع عقليّته التي يمتاز بها.
فالشاعر المُحْدِثُ هو ذاك الذي يمتاز بعقليّة حديثة، وينظر إلى الوجود نظرة جديدة، أمّا الشاعر السلفيّ القديم هو ذاك الذي ينظر إلى حاضره بأعين القدماء، ويُخطئ مَنْ يظنّ أنّ الحداثة الشعريّة توجب أن تكون القصيدة حديثة في الشكل والمضمون معاً، فقد تكون القصيدة العموديّة حديثة كل الحداثة إن هي حوت مضموناً جديداً يلائم الحياة الجديدة، ويواكب حركة الزمن وسرعته، لأنّ جوهر العمليّة الشعريّة في كلِّ الأزمنة هو المضمون، فإن كان المضمون حديثاً تصبح القصيدة حديثة، أمّا إذا كانت القصيدة حديثة من حيث الشكل، وتحوي مضموناً قديماً، فهذا يعني أنّها قصيدة قديمة، لأنّ الشاعر فيها يخاطب أبناء عصره بلغة الأقدمين.
أمّا إذا أردنا أن تكتمل عناصر الحداثة الشعريّة في القصيدة الواحدة، فهذا يتطلّب منّا أن نغيّر في الشكل، والمضمون، واللّغة، التغيير الذي يلائم الحياة الجديدة، ويواكبها، ومثال هذا التغيير نلحظه في قول خليل حاوي: (عندما ماتت عروق الأرض في عصر الجليدْ/ مات فينا كلُّ عرقٍ، يبست أعضاؤنا لحماً قديدْ/ عبثاً كنّا نصدّ الريح والليل الحزينا/ ونداري رعشةً مقطوعةً الأنفاس فينا/ رعشةَ الموتِ الأكيدْ/ يا إلهَ الخِصْبِ، يا بعلاً يفضّ التربة العاقرَ يا شمسَ الحصيدْ/ يا إلهاً ينفض القبرَ ويا فِصْحاً مجيدْ/ أنت يا تموز، يا شمسَ الحصيدْ/ نجِّنا، نج عروق َ الأرضِ من عُقْمٍ دهاها ودهانا،/ أدفئ الموتى الحزانى/ والجلاميدَ العبيدْ/ عبر صحراء الجليدْ/ أنتَ يا تموز، يا شمسَ الحصيدْ( ).
وفي الخلاصة نرى أنَّ موضوع الحداثة في الشعر كان وما يزال موضوعاً واسعاً للبحث وإبداء الآراء المتوافقة أحياناً، والمختلفة أحياناً أخرى، وهذا التنوّع في الآراء موجودٌ بسبب غنى الموضوع وأهميّته.
د. محمّد حبلص