المقابلات

أوراق الرحالة \
د. قصي الحسين

أحفزني معرض “القنطرة… رحلات دوم بيدرو الثاني إلى العالم العربي/1871_1876″، الذي تقيمه السفارة البرازيلية في “دار النمر للفن والثقافة” في مناسبة مرور قرن ونصف، على رحلة الأمبراطور البرازيلي دوم بيدرو الثاني إلى لبنان عام1871.

أقول: حفزني هذا المعرض للوقوف على عالم الرحلات. على أدب الرحلات. على عالم الرحالة، والطرق التي سلكوها في البر والبحر. والمغامرات التي عاشوها. والخطط التي وضعوها. والغايات والأهداف التي أملوها، والدول التي شجعتهم وأوفدتهم، ودعمتهم بالمال. وسهلت لهم السلوك في المجازات القديمة الموحشة. وأمنت لهم الطرقات، بحيث صاروا يصلون إلى البلدان التي قصدوها، تحت حراسة. أو تحت رعاية. أو بالخدمة الأمنية المدفوعة سلفا، لمن كان يحفظ الأمن على الطرقات، وفي طول البلاد وعرضها.

لا بد أولا، من تذكر أنواع الرحلات التي عرفت في التاريخ الوسيط وما بعده، حتى نهايات القرن التاسع عشر. فمن خلال تصنيفها، يمكن لنا أن نخمن غاياتها وأهدافها. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الرحلة في طلب العلم. والرحلة في طلب الأعشاب. والرحلة في طلب الحرب. والرحلة في طلب السلم. وأما رحلات الإستطلاع والإستكشاف، فكانت كثيرة للغاية، خصوصا في عصر النهضة، حين صار الرحالة إلى المغامرات، وركوب البحار، والسير في الفلوات، وقطع المسافات الطويلة، للوقوف على بلدان جديدة. وعلى أرضين جديدة. وعلى شعوب جديدة، لم تكن معروفة في العالم القديم. ناهيك عن رحلات الحج، من بلاد الفرنجة إلى الاراضي المقدسة. وكذلك الأمر عن رحلات الحج والعمرة من جميع بلاد المسلمين في المشارق والمغارب، إلى مكة والمدينة في بلاد الحجاز، والزيارات المتصلة بها. والشعائر التي كان على الحاج أن يؤديها، أثناء زيارته في موسم الحج، وفي موسم العمرة على حد سواء.

أريد أولا أن أتمهل، عند الرحلات التي كان يقوم بها العرب في العصور الوسطى. إبان كانت دولتهم، تنتشر على ضفتي البحر المتوسط، قبل أن يخرج الغرب إليهم، ويحل محلهم في بسط النفوذ على هاتين الضفتين، وما يتصل بهما من العالم القديم.

أريد أن أذكر بالرحلات التي كان يقوم بها الشاميون والعراقيون، إلى مصر والمغرب، وما بعدهما من بلاد إفريقيا. وكذلك الأمر إلى بلاد إيران وأذربيجان وأفغانستان وعواصمها ومدنها وبلداتها. أريد أن أذكر أيضا، أن هؤلاء الرحالة الشرقيون، كانوا قد ركبوا البحر في الوصول إلى الغرب. يريدون الوقوف على أحوال أهل الأندلس، وما يليها. وما والاها من بلاد، ومن أمصار. ومن عواصم ومن بلدات ومن قرى ومن قصبات، كانت مزدهرة، بل ذائعة الصيت وذائعة العلم، في ذلك الوقت.

أريد أن أذكر وبالمماثل أيضا، بالرحالة وبرحلاتهم، من بلاد الأندلس، إلى بلاد المغرب ومصر وإفريقيا. وكذلك إلى جزر البحر المتوسط. قبل بلوغهم بلاد الشام وفلسطين وأرض الرافدين، وما كان يليها من بلدان عامرة. أريد أن أذكر برحلات المغاربة والمصريين والحجازيين ، إلى بلاد الشام والعراق والأندلس، وجزر البحر المتوسط.

أريد أن أذكر بالرحلات، التي كان يقوم بها الرحالة العرب، إلى بلاد بيزنطية. وإلى بلاد الروس والبلغار. وإلى بلاد الترك والغز. وإلى بلاد الأناضول، وإلى بلاد الصين والهند والمنغول. وقد وضعوا عن تلك البلاد التي رحلوا إليها، أهم كتب الرحلات التي عرفت في ذلك الوقت.

هل نذكر الرحلات إلى بلاد أرمينيا والقوقاز والقرم و الأراضي المتصلة بها في تلك النواحي، من بلاد الدردنيل والبوسفور والبحر الأسود وبحر قزوين وبحر مرمرة. فالرحالة العرب، كانوا قد خوضوا في جميع البلاد المعروفة في العالم القديم، ولم يتركوا بلدا منه، إلا ووصلوا إليه بعلمهم وتجاراتهم وقوافلهم. وكانوا يحطون الرحال في جميع الأسواق، وفي جميع الأمصار. ويتاجرون ويدونون ويرحلون. ويتركون وراءهم آثارهم وأوراقهم، تدل عليهم، بعد تراخي الزمن.

كان الرحالة يحددون وجهة رحلة. ويحددون في الوقت عينه غايتهم من الرحلة وما يؤملون من جناها. فكانت أسفارهم، لها غايات مخصوصة يريدون أن يبلغونها، مهما واجهتم من صعوبات. وأذكر من هؤلاء الرحالة، الذين تركوا وراءهم آثارا مكتوبة عن رحلاتهم: البغدادي، الذي وضع تاريخ بغداد. وقد جاء من بغداد، إلى مدينة صور على رأس قافلة تجارية. فنزل في تلك المدينة التاريخية. وكانت بضاعته تفترش الأسواق. أما مكتبته، فقد كانت بحمولة بعير. جعلها أمامه، وهو يدون تاريخه المشهور، وما كان يشاهده بأم العين. وما كان يسمعه بأذنيه، من روايات ومن أخبار، كان رواتها، يقصونها على مسامعه، فينبهر بها، ويسجلها على الفور في موقعها من مؤلفه العظيم.

أريد أن أذكر برحلة إبن فضلان، إلى بلاد الروس والبلغار. وقد كان مبعوثا من الخليفة العباسي، المقتدر. وكانت غايته إستطلاعية. بحيث يستطلع أخبار تلك البلاد، ويصفها للخليفة. وقد وقعنا في رسالته، إلى الخليفة، على كثير من الأسرار الإجتماعية والإقتصادية. وعلى كثير من الأسرار التنظيمية واللوجستية والجغرافية والسياسية. فذهبت رسالته في ذلك مضرب الأمثال.

كذلك أريد أن أذكر برحلة إبن بطوطة، إلى مالي، وما والاها من بلاد إفريقيا. وكذلك إلى جزر البحر المتوسط وبيزنطية والبلاد المتصلة بها.

هل نذكر برحلة إبن البيطار، الذي جاء من الأندلس، إلى جزر البحر المتوسط، وبلاد الشام، يبحث عن الأعشاب الطبية، والتي كان يستخدمها في صناعة العقاقير.

وكان أهل الشام، يرحلون إلى مصر والحجاز في طلب العلم. ومنهم من كان يرحل في طلب الحديث. أما أهل بغداد، فكانوا يرحلون إلى البادية لطلب اللغة من الأعراب.

وفي زمن الفتوح، خرج رجال كثيرون يبحثون عن الكتب وعن الصحائف، في مكتبات المدن والعواصم. وفي بيوت العلماء والأغنياء والأثرياء. وكان المستشرق ريسلو يقول في كتابه الأثير حضارة العرب: “عجبت لهذا الرجل، كيف كان يخرج في أسفاره إلى البلدان البعيدة. يبتاع بكل ما يحمله على صهوة جواده، مجموعة من الصحائف والأضابير والكتب”.

ومن أهم الرحلات المذكورة في عصر النهضة رحلات المستشرقين الروس والأوروبيين، والأميركيين، إلى سوريا ولبنان وفلسطين ومصر والمغرب العربي وبلاد الحجاز. وقد تركوا لنا آثارا رائعة عن رحلاتهم ومغامراتهم، وما شاهدوه، وما وصفوه، وما دونوه وما رسموه، وما صوره. فخلفوا وراءهم حللا من الكتب النفيسة، التي صارت مراجع هامة في الدراسات الأدبية والتاريخية والسياسية والفنية.

ومثلما مهدت القوافل التجارية التي كانت تخرج من الحجاز إلى بلاد العراق والشام، لأعمال الفتوح، كذلك وبالمماثل، كانت الرحلات الثقافية الإستشراقية، تمهد لأعمال الفتوح أيضا.إذ كانت الأغراض العسكرية، تريد أن تتزود بالخبرات، عن تلك البلدان التي تريدها، فتمهد لذلك بإرسال البعثات العلمية والثقافية، التي تضع لها التقارير، عن أحوال تلك البلدان. فتتكون لها المشاهد. ويصير الأمر في متناول النظر والبصر واليد.

فالرحالون، كانوا غارقين في القدامة منذ ما قبل التاريخ. وكانت أوراق الرحالة، و كتبهم التي وضعوها عن مشاهداتهم عظيمة الثراء. وكلما كان الزمن يتقدم بهم، كلما وجدوا حاجة لزيارة البلدان. وكانت حاجات الدول إليهم لا توصف، لأنهم كانوا خير من يصف البلدان.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى