المقالات

سيدي “بلحسن الشاذلي” يشعُ لطافةً \ بكر أبوبكر

كانت الاطلالة القريبة على تونس عندما دخلناها لأول مرة في العام 1984م، لشأن يتعلق بالمنح الدراسية لأبناء فلسطين في الكويت، حيث كنت رئيسًا لاتحاد الطلاب هناك، وحيث أقامت القيادة الفلسطينية في تونس فكانت ثُلاثية النظرة ما بين الشعب والمدينة والثقافة الباهرة، حيث اللطف يرفرف والبساطة تموج والفرح ينسابُ والرحابة تضج في عيون التوانسة نساء ورجالًا.

المدينة في تونس ترفض الفخامة والأبهة والكِبْر، وتضيقُ ذرعًا بالصخب وبالمظاهر الاستعلائية، فلا يوجد أكثر علوًا وبهاءً وألقًا من مقام سيدي أبوالحسن الشاذلي الذي يشع تصوفًا ولطافة في الأرجاء الأربعة.

ضريح سيدي أبو الحسن “بلحسن الشاذلي” يشمخُ في أعلى هضبة الزلاّج جنوب مدينة تونس وهو الضريح الذي أعيد بناؤه في هيئته الحالية في نهاية القرن التاسع عشر بأمر من الوزير الأول مصطفى خزندار، ثم أعيد بناؤه أربعة عشر مرة على الأقل حتى اليوم. ومن أعلى الهضبة يمتد البصر ليشمل مدينة تونس وكذلك سيدي بوسعيد وقرطاج وحلق الوادي ورادس[1].

تونس تحبُ الشارع بحدّ ذاته ومن فيه حيث الناسُ الكُثُر (برشة عباد)، وحيث تجد حنو الطوب الأحمر في البيوت الذي يكون باردًا في الصيف ودافئًا في الشتاء، وليس ذاك الطابوق الاسمنتي وليس الخرسانة الكثيفة التي تطحن الأرواح.

أما عن الثقافة فسل ولا تخجل من حيث الوجود والاستقرار والاهتمام بالسينما والمسرح والمكتبات والفِرق الفنية والمراكز الثقافية ما خبرناه فترة الإقامة الجليلة في البلد الحفيّ بالغرباء إنها إطلالة أخذت من “بساط الريح جميل ومريح” و”الحب كده” و”إذا أراد الشعب الحياة” فجعلته مزيجًا فريدًا مع تراث تعايش فيه الإمام العظيم الطاهر بن عاشور والسياسي المحنك الحبيب بورقيبة.

كنّا أنا وصديق لي نسير في سيارته في منطقة المنزه الخامس من تونس العاصمة (والمنازه جمع مَنْزَه من المنزه الأول الى الثامن هي أحياء سكنية حول العاصمة وكانت مقر إقامة غالب مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية) بسرعة كبيرة فأوقفه شرطي مرور باسمًا طالبًا منه أوراق السيارة فلم يجدها، فطلب رخصة القيادة ولم تكن معه، وكذلك الأمر بشأن الهوية (بطاقة التعريف)، أي أنه يقود بسرعة ولا يمتلك أي وثيقة للسيارة أو سائقها فلم يغتم الشرطي أو يهدر ويثور ويقرّع، وظل مبتسمًا وعرف من لهجة صديقي أنه غير تونسي فقال له تفضل واصل القيادة بهدوء والمرة القادمة لتكن الوثائق معك؟!

فتعجبت! لأن مثل هذا الأمر لو حدث في بلد مشرقي ما كان ليمر بهدوء أبدًا، ولكان الشرطي قد تحول الى سلطان زمانه ليس باتخاذ الإجراء القانوني، وإنما بالتكشيرة والعبوس والتقريع وما تشاء من الإساءات اللفظية مثل الشتم والسخرية، وربما تمتد لما تشاء من أساليب التحقير للآخر، واثبات الذات لصاحب الأمر.

تعجبت وأدركت الفرق منذاك بين الشخصية المشرقية عامة والمغاربية خاصة التونسية وما لمسته وتأكدت منه فترة عيشي هناك.

لدى المغاربة وخاصة في تونس والمغرب روح التباسط واللطف وحبُ الحياة للشابي، والوطنية الجارفة وفكر الاعتدال والوسطية، وما أراه وخبرته من عدم المغالاة العنيفة غالبًا، والبُعد عن الجفوة وعقلية الغزو والغنائم الصحراوية، والبُعد عن الخشونة والصراع الشديد على عكس ما لمسناه فترات عيشنا المتواصل في أقطار المشرق العربي ثم في فلسطين، ورغم أن لبنان باعتقادي تعدُ بشعبها الجميل من ألطف بلدان المشرق، فإن تونس أو المغرب (التي لم أزرها وحسب قراءاتي وسموعاتي عنها) تعدُّ الأكثرإشراقًا وتنويرًا ورحابة، وخاصة وفتنة صديقي نبيل وغيره الكثير بها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى