المقالات

آن للبنان أن يترجل! \ د. قصي الحسين

بعد إنفجار المرفأ في الذكرى المئوية لميلاد الكيان، ظننا أن هذة الصيغة الطوائفية، التي رسا عليها لبنان، قد إنتهت إلى غير رجعة. ما كان يهم كثيرا، أن نعرف المفجرين المباشرين، لأنهم ليسوا بنظرنا إلا أدوات للتفجير. فواقع الحال يفترض، أن هذة الصيغة قد جربت لمئة عام، ولم تنفع. فكان لها أن تنفجر بأهلها. وأن عروض العذاب التجريبية، كانت تتعاقب على البلد الذبيح، دون أن تجعله يترجل عن الخشبة. فما كانت تنفعه حقبة الإنتداب. ولا حقبة العهد الأول من الإستقلال. ما كانت تنفعه ثورة الخمسينيات. ولا إنقلاب الستينيات. ولا حرب السنتين، ولا إتفاق الطائف. ولا الإنقلاب على دستور الطائف. فكل هذة الحقبات، كانت تذهب ريحها، ما أن تمر عليها الريح، ولا تدع للكيان، فرصة للترجل عن الخشبة.

تدرج لبنان في العذاب. كان يغالب الموت، من حقبة إلى حقبة. مثل الغريق، يغالب الموج والريح والتيارات الجارفة. وكنا ننظر إليه وهو معلق، أن لا بد أن يأتي اليوم القريب. فيدركه أهله. يستيقظون من ثباتهم. من غفلتهم. من طيشهم. من رعونتهم. من أطماعهم. من مؤامراتهم. من مؤتمراتهم، فينهضون قومة رجل واحد. و يهبون لنجدته وينزلونه عن الخشبة.

ثمة من يقول: إنه بجلاء العهد العوني عن كرسي الجمهورية، تكون قد إنكسرت الحلقة الأخيرة التي كانت تعلق لبنان على خشبته. تكون قد وصلت الأحزان إلى خواتيمها. فقد غادر الرئيس، وأقفل الباب لا على الفراغ السياسي، كما هو ظاهر، بل على المئوية الحزينة. فليس هناك بلد في العالم، إستطاع أن يبلغ البر، بعد تخبطه في القيعان، نحوا من مئة عام، إلا لبنان. وهذا الإرتياح الشعبي، لإنتهاء الولاية القاتلة، يقول الكثيرون، إنما هو خير دليل، على أمل عظيم، بأن يدخل لبنان في المئوية الثانية، لا على قاعدة من التنفير بالغسق، بل على قاعدة من التبشير بالشفق. فهل يفلح الراؤون، في هذة الرؤيا. وهل لبنان حقا، خرج من الغسق، ونزل عن الخشبة. وصار أمام تاريخ جديد، مبشر بالشفق.

أشارك حقا، الزعم الذي يقول، بإن جلاء العهد العوني عن كرسي الرئاسة، هو أول الخروج من النفق المظلم. لكن أستدرك فأقول: ليس هو آخره حتما. هو أول النزول عن الخشبة، لأجل النهوض، لا لأجل السقوط. وهذا من علامات التفاؤل. إذ أن مرحلة التعافي، تبدأ بدفن المئوية الأولى، وليس بإستنساخها. وأمام لبنان، منذ اليوم، فرصة جديدة، يجب أن يتلقفها. فلا يمضي في الصيغة الطائفية القديمة، التي أوصلته إلى ما وصل إليه، من قتل وتدمير وإذلال وخسران، بل عليه أن يعرف أسباب مواته، طيلة المئة عام الماضية، فيتحاشى العودة إليها من جديد، لئلا يعود إلى الخشبة.

إنتهت المئوية المشؤومة، بصيغتها الطائفية، فهل يستطيع لبنان، أن يفتتح عصره الجديد، بصيغة وطنية، يتلمسها، من الدستور والقوانين، دون أن يشربها الروح الطائفية. هل من الممكن أن يتلاقى اللبنانيون، على شطب كل ما هو طائفي مما بين أيديهم، من مواد الدستور والقانون، أو شطب ما يشي بالطائفية، لإنها كانت الجرثومة القديمة الجديدة التي حملت للبنان الموت، ووقفت في وجه قيامته وترجله ونهوضه، كما سائر الأوطان في العالم.

إن إعادة البناء على الأساس الوطني، هو أول الطريق. فإذا ما إندفع اللبنانيون لنبذ الطائفية من دستورهم ومن قوانينهم، فإنهم بذلك سيكونون على أول السكة المؤديةإلى إصلاح مسيرتهم التاريخية. فلا تستقيم الحياة في وطن تتنازعه الأهواء الطائفية حتى الموت. فهل يبادر اللبنانيون إلى خلع الطوائفيين من بينهم، بالدعوة لإلغاء كل ما هو طائفي في الصيغة والميثاق والدستور والقانون.

يعيش لبنان وأهله اليوم، في البرزخ، بين ماض طائفي بغيض، ومستقبل، لا يمكن الإطمئنان إليه إلا إذا نزعنا عنه هذا الوجهه الطائفي البغيض. والأمر اليوم، بعد التهاوي المريع في المؤسسات الوطنية اللبنانية، لا يدعونا إلى التشاؤم، بقدر ما يدعونا إلى التفاؤل. وهناك شبه إجماع لعدم تكرار التجربة القديمة، في الإنتخابات الرئاسيةالقادمة. وفي كل إنتخابات لبنانية أخرى. فليبحث اللبنانيون عن رئيس وطني. وليتهم يقدمون، بل يولون عليهم، الرئيس الأكثر وطنية. يحفظ البلاد ويصونها، عن كل طمع مشبوه، داخليا وإقليميا وعالميا. فإذا ما نجحت هذة التجربة، فلنبادر إلى مثلها في كل إنتخابات قادمة. إذ لا خلاص للبنان مما يميته ويقتله ويعلقه، ويجعله يتساقط أمام عيون أبنائه، إلا إذا نفحوا فيه الروح الوطنية، وجعلوه ينتعش ويترجل عن الخشبة!.
آن للبنان أن يترجل حقا عن الخشبة، بعدما إستعصى موته على قاتليه طيلة المئوية الخالية. بل لنقل طيلة المئوية الخائنة. لا فرق!.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى