على هامش الازمة المالية العالمية• مهمات تاريخية لحكومة عادية. بقلم:بشارة مرهج

مقابل الاستنفار الدولي والإقليمي والعربي لمعالجة الأزمة المالية العاتية التي تنتقل من بلد لأخر كالنار في الهشيم يستمر المسؤولون اللبنانيون في ترداد اللازمة بأن لبنان استطاع بفضل كفاءة القطاع المصرفي وسهر البنك المركزي
أن ينأى بنفسه عن الانعكاسات السلبية الجارفة لهذه الأزمة التي يشهدها العالم اليوم.
وإذ تساهم هذه المواقف في لفت الأنظار الى سلامة القطاع المصرفي إلا إنها تساهم في الوقت نفسه بإشاعة حالة من الاسترخاء والرضى المبالغ به عن الذات، وكأن كل شيء على ما يرام في لبنان وكأن ليس المطلوب من أهل الحل والعقد سوى الاستمرار في هذا النهج لتحصيل أفضل النتائج، فيما الوضع إذا تبصرنا فيه يحتاج الى مراجعة صادقة ومقاربة جريئة علّنا نتمكن فعلاً من تجاوز المحنة التي بدأ يشعر بها مئات الملايين جراء الممارسات الليبرالية المتوحشة التي أسقطت كل القيود على حركتها ورفضت حتى اللحظة كل أشكال المساءلة والمحاسبة التي صدحت بها أبواقها وأجهزتها طيلة الفترة الماضية.
ونحن إذ ندعو لمعالجة متأنية للوضع القائم فليس لأننا ننكر فضل البنك المركزي أو القطاع المصرفي وإنما لاعتقادنا بأن الاكتفاء بذلك لا يشكل منهجاً سليماً لاستيعاب ومواجهة تحولات معقدة تتفاقم يوماً بعد يوم وتجرف بطريقها كبريات المؤسسات المالية في العالم التي تتهاوي كأوراق الخريف ملتهمة مدخرات المساهمين متفرجة على مدرائها يخرجون من مكابتهم الفخمة وقد امتلأت جيوبهم بالرواتب والمكافآت الضخمة التي اقتطعوها لأنفسهم بدون حياء بعيداً عن أعين “الجمعيات العمومية” وأجهزة الرقابة المالية.
وفي ظل هذه الأنغام الجميلة التي تعزفها ليل نهار اوركسترا المال والسلطة يخشى أن تفاجئنا أحداث وتطورات لم ننتبه لها فتدفع الناس الثمن مضاعفاً في حين يخرج المتورطون والمتسببون من مكاتبهم وقد انتفخت جيوبهم، كما كل مرة، دون أن يطالهم حساب، ودون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الاعتذار من الرأي العام كما جرى في عمليات الدمج المصرفي الغامضة التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية والتي كلفت الخزينة اللبنانية مبالغ طائلة دون معرفة من الرأي العام ودون معرفة من مجلس الوزراء الذي يعتبره الدستور السلطة العليا في البلاد.
أننا إذ نرفع صوت التحذير في وجه سياسة التخدير فلأن هذه السياسة المعتمدة لم تتقدم قيد أنملة في معالجة مشكلة الدين العام وفوائده السنوية الفاحشة التي تلتهم ما يناهز نصف واردات الدولة بما فيها واردات الخليوي والضريبة على القيمة المضافة دون أن يكون في الأفق ما يشير الى عزم هذه السياسة على قرع هذا الباب بأفكار جديدة تؤدي الى إبعاد الكأس المر الذي ينتظر البلاد واهلها فيما لو لم يتم اجتراح الوسائل والأدوات المالية الناجعة والكفيلة بفرملة هذا المسار المليء بالأخطار والذي أدى حتى الآن الى تفشي الفقر بين اللبنانيين وتهجيرهم الى الضواحي، خصوصاً اهالي بيروت، مقابل تربع طبقة صغيرة تستأثر بالمال والنفوذ وتسترهن جهد اللبنانيين حتى سنوات وسنوات وسنوات.
وأخطر ما في الأمر أن النزعة التفاؤلية السائدة والاوركسترا التي تقبع وراءها لا تأخذ بعين الاعتبار الاتجاه شبه المؤكد لتحول الأزمة المالية العالمية الى أزمة اقتصادية عالمية حيث يتطور الانكماش الى كساد فتتراجع حركة الاستثمار ويتقلص الطلب العام وتتباطأ الحركة الاقتصادية عموماً بما يؤدي الى انخفاض الدخل العام، وتفشي البطالة مع ما يرافق ذلك من توترات اجتماعية وأمنية. وفي حال حصل ذلك وهو ما بشّر به صراحة الان غرينسبان رئيس الاحتياط الفدرالي سابقاً وعشرات الخبراء الاقتصاديين فضلاً عن اللجنة الاقتصادية المعاونة للرئيس الأمريكي فان الاقتصاد العالمي سيدخل في مرحلة ركود حقيقية لن يكون احد بمنأى منها بمن فيهم لبنان صاحب الاقتصاد المكشوف على الخارج.
وإذا كانت الأوساط الحكومية، ومن يردد أفكارها في الوسط الإعلامي، غير مقتنعة بهذه النظرة فنسألها هل تكفي الودائع المصرفية المتزايدة كي نطمئن الى وضعنا الاقتصادي العام؟ وإذا كان حجم الودائع المصرفية (75 مليار دولار) يكفي لحماية الاقتصاد الوطني فكيف نفسر إذن تراجع الأسهم اللبنانية في بورصة بيروت ومن بينها أسهم عدد من المصارف. أن هذه الظاهرة تبين أن الأزمة أعمق وأدهى مما يتراءى لكثيرين. وكل ذلك يجب أن يحفز الحكومة ومعها الأوساط المالية والمصرفية على مغادرة العالم الوردي والمتخيل، وإيقاف طقوس التغني والتفاخر والانصراف الى دراسة أوضاع الاقتصاد الوطني بجدية ومسؤولية وبخاصة تدني مستوى النائج الوطني وسؤ توزيع الدخل، وتفاقم عبء الدين العام الذي يلتهم اعتمادات الاستثمار المفترضة ويعرقل النمو الاقتصادي وينشر الفقر والجوع والبطالة.
أن إصرار الطبقة الحاكمة على إبقاء الفوائد على مستوياتها العالية واستباحة أموال اللبنانيين من شأنهما دفع الناس دفعاً الى الاقتصاد الريعي وانتظار المعونات الخارجية والمواسم الانتخابية، والابتعاد عن الاستثمار الإنتاجي وما يؤدي إليه ذلك من تضييق على فرص عمل جديدة يحتاجها الشباب، وهذا اتجاه يكشف البلاد أكثر مما هي مكشوفة الآن ويجعلها عرضة للاهتزاز وربما أكثر من الاهتزاز فيما لو هبت صوبها رياح سامة هي اقرب إلينا مما نتصور.
أن جوهر الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد اليوم يعود الى حجم الدين العام المتعاظم وخدمته السنوية الباهظة. والحلول الممكنة المتداولة لاستيعاب هذه الأزمة هي ثلاث: 1- تكبير حجم الاقتصاد، 2- خفض النفقات، 3- زيادة الواردات.
في ظل الاقتصاد الريعي والأزمة العالمية والعرقلة الرسمية و”الزعاماتية” للمشاريع فان تكبير حجم الاقتصاد دونه خرط القتاد.
يمكن للاقتصاد أن يتقدم ببطء وصعوبة وسط إجراءات بيروقراطية معقدة وفي كنف إدارة متخلفة ومتطلبة وتحت أنظار زعامات جشعة تفتش عن حصتها الريعية ولكنه لن يستطيع التقدم ضمن المعطيات الحالية الى الدرجة التي يتكافأ فيها مع المخاطر الناجمة عن المديونية العالية أو الأزمة العالمية.
أما تخفيض النفقات فمن الواضح أن الحكومة هي اعجز من تحقيق ذلك لاعتبارات يعرفها ألقاصي والداني.
أما زيادة الواردات وهو الأمر الذي ينبغي التركيز عليه من قبل الحكومة فانه يعتمد حسب ما ورد في مشروع الموازنة للعام الجديد على زيادة الضرائب والرسوم وهذا أسوأ ما يمكن أن تلجأ اليه الحكومة في مرحلة الانكماش الاقتصادي، لأنه يمكن أن يؤدي الى عكس المبتغى خصوصاً وان الضرائب والرسوم قد بلغت ذروتها بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود والطبقات الشعبية.
كل ذلك يؤشر، فيما يؤشر اليه، الى وجود معضلة وربما معضلات يحتاج تفكيكها الى عقلية متحررة من سلطة المال قادرة على الابتكار واتخاذ القرارات المؤلمة. وقد اعتدنا حتى الان على اتخاذ الحكومة – والسلطة الفعلية التي تقف وراءها – لمثل هذه القرارات ولكن باتجاه الذين لا يملكون وقد دنت ساعة الحقيقة التي يجب أن تتجه فيه هذه القرارات صوب من يملكون. لقد استفظعت الحكومات السابقة تسليف تعاونيات لبنان بضعة ملايين من الدولارات لتصحيح مسار فاشل شاركت الدولة بصناعته عبر مدرائها العامين، ولكنها استسهلت الى ابعد حد – هي والسلطة الأكبر منها – منح أصحاب المصارف ومديريهم الفاشلين والفاسدين مئات ملايين الدولارات دون أن يرف لها جفن. فلماذا الحلول موجودة دائماً “لمشاكل” الأغنياء والحلول غائبة لرفع الظلم عن الفقراء؟! هل يتذكر احد الأملاك البحرية – ملك المجتمع والدولة والتاريخ – التي استبيحت دون وجه حق ويمتنع شاغلوها عن دفع الغرامات بينما تتثاقل الدوائر المعنية في تحصيل حقوق الدولة منهم؟
هل يتذكر احد أن رؤوساً كبيرة لم تدفع فواتير الكهرباء والهاتف منذ زمن؟
هل يعرف احد من هم أصحاب الديون الهالكة؟ هل يعرف احد شيئاً عن تحصيل الدولة اللبنانية حقوقها وحقوق الناس من مصرفيين فاسدين اختلسوا الودائع في وضح النهار وغادروا الحدود بحراسة نافذين؟!
هل يتذكر القضاء بنك المدينة وتقارير الخبراء ام ان “المصلحة” تقضي بتأجيل ذلك الى ما بعد الانتخابات؟
إن الحكومة – حكومة الوحدة الوطنية – إذا أدركت فعلاً أنها أمام أزمة حقيقية وكبيرة غير الأزمات الغارقة فيها حالياً فهي قادرة على إيجاد بعض المخارج والحلول، لا بل هي قادرة على أكثر من ذلك إذا اعترفت بالحقيقة وواجهتها كما ينبغي في زمن لم يتوقع كثيرون تداعياته ومصائبه. هناك قرارات كبرى لا مفر منها والمسؤولية تقضي اتخاذها في الاتجاه الصحيح وليس ترحيلها الى المرحلة المقبلة.
أعجب من رئيس الحكومة الذي يتخوف من الركود الاقتصادي – وهو الخبير في هذا المجال – كيف لا يركز بحثه على الخلل الأساسي الذي تعاني منه المالية العامة. فهو يدرك، كما مستشاروه ومساعدوه، انه لا يمكن التوصل الى توازن مقبول في المالية العامة دون عملية جراحية مدروسة تمس الدين العام وإعادة جدولته وهيكلته وتخفيض فوائده، فلماذا إذن لا يتحمل مسؤوليته ويضع الأمور في نصابها؟
ملخص القول أن معظم الدول تفكر الآن بخطط للتحفيز الاقتصادي ونحن نتغنى بنجاح قطاع مهم من الاقتصاد الوطني متناسين أن هذا النجاح لا يغني عن انتهاج خطة شاملة لمواجهة الظروف المستجدة.
العاصفة الاقتصادية تقترب يوما بعد يوم واسرائيل تستكمل استعداداتها ضد لبنان الحكومة مشغولة بقضايا عادية، المسرح السياسي على عادته مليء بالاشتباكات العارضة خلا طروحات فدرالية عفا عليها الزمان تنطلق من فرضيات خاطئة لتزيد من منسوب التوتر في بلد “يجتهد” فيه الزعماء على ترسيخ الاستقرار.
Best Development Company in Lebanon
iPublish Development offers top-notch web development, social media marketing, and Instagram management services to grow your brand.
Explore iPublish Development