التحقيقات

الطبيعة تضطرب ولاتخل بتوازنها فيما الإضطراب البشري يخل بالتوازن \ أسامة إسماعيل

الطبيعة تصنع توازنها. وتؤدي الظواهر الطبيعية المختلفة بما فيها العاتية والشديدة كالعواصف والأعاصير والزلازل والبراكين دورها في هذا التوازن وإن أدت إلى أضرار للإنسان وحتى هلاكه. ولولا هذه الظواهر التي بدأت مع تكوّن الأرض قبل مليارات السنين واستمرت بقوة في العصور الجيولوجية القديمة لما كان هنالك جبال ووديان وسهول ومحيطات وبحار وينابيع وأنهار وجزر. ولايستطيع الإنسان أن يخل بتوازن الطبيعة ونظامها ولكنه يستطيع أن يؤثّر في هذا التوازن سلباً أو إيجابا"بفعل الصناعة والتكنولوجيا والعادات والسلوك السيء فيزداد تطرف بعض الظواهر وشدتها وأضرارها، ولكن الطبيعة تعيد التوازن إلى ذاتها. والطبيعة عندما تضطرب لا تشعر بمعاناة الإنسان وألمه من جراء الأضرار التي تسببها له وقد تفقده حياته لأنها جماد أو هواء بلا عقل ونفس وإرادة ولكن إضطراباتها تخدم معادلات فيزيائية وجيوفيزيائية وكيميائية في سياق نظامها وتوازنها العام الذي لايقبل الإستقرار الدائم والشامل والمطلق، ما قد يهدد سلامة الإنسان وحياته إذا لم يقم بإجراءات إحترازية ووقائية كافية. ولكن الإنسان يستطيع أن يخل بالتوازن النفسي والإجتماعي والإقتصادي والمعنوي فيغنى الغني ويزداد غنى وثروة على حساب غيره ويكبّر الصغير ويصغٍّر الكبير ويفضّل التابع والسطحي والمزعج والمتملق والوصولي والفاسد على المثقف النخبوي المستقل.
تفتعل الأزمات كالأزمة الحالية في لبنان لأجل السلطة والأرباح المالية والنفوذ وإن أدت إلى زيادة الفقر والبطالة وشل المرافق العامة. وتغلّب المعتقدات الجاهزة والجامدة على العقل وإلارادة الفرديين وتوضع العواطف والغرائز والمصالح المادية في النطاق الجماعي العائلي والعشائري والطائفي والحزبي والشعبي بدلا"من أن تكون في النطاق الفردي والشخصي تحت إشراف العقل وإلارادة الفرديين ويباح التدخل في الأمور الشخصية والفكرية والمهنية ومحاولة كشف أسرارها لأجل الجماعة العائلية والعشائرية والطائفية والحزبية والشعبية،ويحاول النافذون والممسكون بالسلطة والثروة والتابعون لهم حجب الحقوق الطبيعية والمكتسبة عن النخبوي المستقل الناقد كأنها ملكهم وملك الجماعة لا ملكه!!! وقد يخل النظام السياسي والإجتماعي والإقتصادي والديني بالتوازن الفكري والنفسي َوالإجتماعي والإقتصادي والعدالة وكذلك تفعل الأزمات والحروب فيما نظام الطبيعة يحافظ على توازنها رغم إضطراباتها. فالنظام الديموقراطي الإنتخابي الطائفي الحزبي يخل بالتوازن عبر إتاحته لغير المثقفين النخبويين المستقلين وغير الجديرين، والفاسدين والمتعصبين الوصول إلى الحكم والإدارة والوظائف والمراتب القيادية واختيار من وما يحكم ويقرر حياة الآخرين ومصيرهم حتى النخبوي المستقل الأفضل والأعلى مستوى منهم. ويشجع هذا النظام التسبب بالأزمات وافتعالها دون حلول شاملة ودائمة وناجعة كحالة الأزمة الراهنة في لبنان. وكذلك النظام الديكتاتوري الذي لا يختلف عن النظام الديموقراطي العددي إلا بالدرجة لا النوع ويتشارك معه بالصفات السيئة. ويخل النظام الرأسمالي غير المضبوط بالتوازن عبر إتاحته للبعض الإثراء على حساب غيرهم وخاصة"ذي الدخل المحدود والمنخفض والفقراء، وتراكم رؤوس الأموال وتركّزها بين أيدي قلة من الناس ويتميز لبنان بمستويات هي من بين الأعلى على صعيد تركّز الثروة والدخل دون استثمارات منتجة وذات فائدة عامة، وعبر سماحه للمضاربين وأسواق العرض والطلب والإحتكارات التحكم بأسعار العملات وخاصة"العملة الصعبة وأسعار المواد والسلع والخدمات الأساسية وزيادتها لتحقيق الأرباح على حساب ذي الدخل المحدود والمنخفض. وفي بلد بنيته الإقتصادية والتحتية ضعيفة ونظامه رأسمالي غير مضبوط تجعل الأزمات المفتعلة ذا الدخل المحدود والمنخفض يعيش في جحيم الأسعار المرتفعة جداً وتدني القدرة الشرائية وغياب الضمانات الإجتماعية والصحية والتهديد بالتعطل عن العمل وانقطاع الكهرباء رغم ارتفاع كلفتها. وأدى تهريب رؤوس الأموال بالعملة الصعبة أو هروبها إلى الخارج في أواخر 2019 وبداية 2020 إلى أزمة مالية ونقدية وإقتصادية وإنمائية دون أن تنتهي بسهولة، وتقدّر الأموال المحولة إلى الخارج في تلك الفترة بأكثر من 8مليارات دولار. وتبتغي الحلول المطروحة لهذه الأزمة، بمعظمها، مراعاة مصالح مسببي الأزمة ومفتعليها وفئات معينة وأرباحهم أكثر مما تبتغي المعالجة الشاملة والعادلة والناجعة لها. وهذا الأمر ينطبق على معالجة مشكلة تحويل الودائع بالعملة الصعبة إلى الخارج وارتفاع سعر الدولار الأميركي وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 95 %وانقطاع الكهرباء رغم ارتفاع كلفتها. فالمعالجات المطروحة لاتضع حدا"للفوضى الإقتصادية والمالية والنقدية التي تلقي عبئاً على ذي الدخل المحدود والمنخفض والمؤسسات الصغيرة المحدودة، فلاتدخل مباشر وفعّال للدولة يضبط الوضع المالي والإقتصادي والنقدي ويقطع الطريق أمام المضاربين والمحتكرين والعمليات الضارة بالوضع الإقتصادي العام كعمليات تحويل الودائع بالعملة الصعبة إلى الخارج والإحتكار ورفع الأسعار. بل إن المنتفعين من الأزمة والفوضى الإقتصادية والمالية والنقدية يحاولون فرض شروطهم على الدولة التي تبدي التراخي والتغاضي تجاه السوق السوداء لسعر صرف الدولار دون إجراءات حاسمة وشاملة باستثناء بعض مسرحيات إلقاء القبض على صيارفة مضاربين ودعاوى ضد مصارف وطلب رفع السرية المصرفية ومنع التعامل بالشيكات في المصارف التي أعلنت الإضراب المفتوح إحتجاجا"على هذه الدعاوى والقرارات.

إن اضطرابات الطبيعة تختلف عن الإضطرابات والفوضى والأزمات والحروب التي يحدثها ويسببها البشر. فتلك تحدث وفق معادلات تخدم تكوين الطبيعة وتوازنها ونظامها. وما يراه الإنسان في اضطرابات الطبيعة أنه ضرر وهدم وهلاك له هو “بالنسبة” إلى الطبيعة ضرورة من ضرورات التكوين والبناء والإستمرار والتوازن ولولاها لما كان هنالك حياة وجبال وسهول ومحيطات وبحار وأنهار على الأرض فيما إضطرابات البشر تخل بالتوازن النفسي والمعنوي والإقتصادي والإجتماعي حتى أن أنواع الأنظمة السياسية والإجتماعية والدينية والإقتصادية قد تخل بهذا التوازن. فالإنسان يتمايز عن الجمادات والهواء والكائنات الأخرى بالعقل والإرادة. فالركون إلى المعتقدات الجامدة والجاهزة والعواطف والغرائز الجماعية العمياء ومصالح فئات معينة دون أخرى يؤدي إلى الفوضى والإستبداد والتعصب والظلم والأزمات والإضطرابات والحروب المدمّرة والمهلكة والمخلة بالتوازن.
أسامة إسماعيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى