كي لا ننسى

الطريق إلى عتليت مذابح الأسرى العرب في حربي 56 و 67 – الحلقة 14

وراء الخطوط المصرية
“اليوم، أيها المواطنون

وجماجمهم، اللي ماتوا سنة 56 من 100 سنة وهمّه في السخرة، نستطيع أن ننمي هذا البلد. النهارده وإحنا بنستقبل العام الخامس للثورة،  وزي ما طلع فاروق في 26 يوليو سنة 52، النهاره بتطلع قنال السويس في نفس اليوم، بنشعر إن إحنا بنحقق أمجاد لينا، بنحقق عزة حقيقية. لن تكون سيادة في مصر إلا لأبناء مصر. إحنا سنتجه قدمًا إلى الأمام، متحدين متكاتفين. شعب واحد يؤمن بنفسه ويؤمن بوطنه ويؤمن بقوته. شعب واحد آلى على نفسه أن يعمل ويزحف زحفًا مقدسًا نحو البناء ونحو التصنيع ونحو الإنشاء. شعب واحد، كتلة واحدة متراصة تقف ضد الغدر والعدوان، تقف ضد الاستعمار وأعوان الاستعمار وألاعيب الاستعمار. سنشعر بالعزة، وسنشعر بالكرامة، وسنشعر بأننا نبني وطننا بناءً حقيقيًا. زي ما إحنا عايزين، نبني اللي احنا عايزينه ونعمل اللي احنا عايزينه، ليس لنا شريك… والآن، أنا أتكلم إليكم، يتجه إخوة لكم من أبناء مصر ليديروا شركة القنال.. الآن.. دلوقت.. بيستلموا شركة القنال.. شركة القنال المصرية، مش شركة القنال الأجنبية”.
الزعيم الراحل/ جمال عبد الناصر
26 يوليو/ تموز 1956
ريّسنا ملاّح ومعدّينا        عامل وفلاّح من أهالينا
ومنا فينا الموج والمركب        والصحبة والريّس والزينة
كان عبد الحليم حافظ يغني لبطل الكرامة والحرية عندما افترى عليه بعضهم وافترى على الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فغنوا وراءه:
ريّسنا سفّاح ومعرينا        قاتل ودبّاح يـ (..) فينا
لم يكن من بين هؤلاء طبيب مصري شاب كان يعمل مع بعثة الأمم المتحدة في مستشفى غزة الذي كان خاضعًا آنذاك، مع بقية قطاع غزة، للإدارة المصرية. جن جنون البريطانيين لدى الإعلان عن تأميم قناة السويس، ووجد الفرنسيون في ذلك فرصة للنيل من دعم الزعيم القومي لثورة الجزائر فيما لم يكن اليهود بحاجة إلى دعوة من بريطانيا أو فرنسا كما أثبت ذلك باحث إسرائيلي في كتابه الذي يحمل عنوان: “إسرائيل تبحث عن حرب”.
قصرت قامته وانحنى ظهره وضعف صوته وقد جاوز السبعين من عمره، لكن ذاكرة الطبيب المصري، أحمد الفنجري، أقوى من الحديد. بدأ البريطانيون والفرنسيون في قصف غزة من البحر، وفي تنسيق معهم دخل اليهود إلى المدينة من البرّ كي يفتحوا فصلاً جديدًا من فظائعهم:
“أنا كنت في البيت عندما سمعت الميكروفونات تدور في الشوارع وتطلب من كل الرجال بين السادسة عشرة والستين أين يخرجوا من المنازل ويتجمعوا في ساحة وسط البلد، وتهدد بأن من يبقى في بيته سيعدم في الحال. خرجت مع بقية الأهالي، لكن الذي نجاني أن رئيسة الممرضات في بعثة الأمم المتحدة أشارت نحوي وقالت لليهود (هذا طبيب؛ لماذا تمسكون به؟) فخافوا منها، ورغم ذلك قسمونا إلى ثماني مناطق. أنا كنت في منطقة (شموني)، يعني ثمانية، وهي منطقة الخطرين الذين سيعدمون.. هكذا، لمجرد أنهم يريدون إبادة الشباب. كانوا يأخذون كل من يرون فيه قدرة على حمل السلاح ويلقون بهم إلى صحراء النقب حيث يتم إعدامهم”. قاطعت الطبيب المصري وتحديته أن يعطيني دليلاً، فانفرجت أساريره كأنه كان ينتظر السؤال فاعتدل في جلسته قليلاً ثم قال: “آااه.. مرت شهور على اختفاء حوالي 300 شاب ثم فجأة هطلت في ذلك العام أمطار غزيرة وسيول جرفت الجثث من صحراء النقب لغاية قطاع غزة فذعبت مع جميع الأطباء إلى منطقة تجمع الجثث، وفيما كنت أبحث بين الجثث المتعفنة التفت سمعي إلى صرخة مفاجئة من سيدة عجوز تولول (ابني.. ابني) فتجمع الأهالي حولها في استغراب؛ إذ لم تكن أمامها جثة، والجثث على أية حال كانت مطموسة الملامح. وجدوها تمسك برجل خشبية لها قصة طويلة موجزها أن اليهود عندما دخلوا إلى غزة خشيت النساء على حليها ومصاغها فخلعته وطلبت من ابن هذه السيدة، الذي كان أعرج، أن يخفيه في رجله الخشبية. أخذت الأم تبنش داخل الرجل الخشبية حتى استخرجت الحلي والمصاغ كله ونثرته أمامنا في ذهول. لقد كانوا جميعًا في عز الشباب أحياء، أخذوهم أمام أعيننا أسرى مدنيين أحياء، وأعادتهم السيول إلينا هكذا… جثثًا متعفنة”.
على هامش بحثه في تاريخ إسرائيل مع العرب، أتيح لأحد دارسي الدكتوراه في جامعة حيفا عام 1994 أن يكون أول من يطلع على الوثائق السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية. الصدفة وحدها ألقت بين يدي موتي غولاني بهذا الكنز. “ثم قالوا لي (لا، لن ننشره؛ لأن به أسرارًا لا نريد للعالم أن يعرفه)، ومن حسن حظي أن الصحفي الإسرائيلي، عمير أورين، التفت إلى دراستي أثناء تنقيبه في الأبحاث العلمية فنشر أهم جانب منهاه وهو الجانب المتلق بقضية إساءة الجيش الإسرائيلي معاملة الأسرى”.
انتقلنا من منزل الباحث الإسرائيلي الذي أجبر على الصمت إلى منزل الصحفي في جريدة “هاآريتس”، عمير أورين، الذي يقول إن الدراسة الموثقة لحساب قسم التاريخ في وزارة الدفاع الإسرائيلية ظلت حبيسة الأرفف حتى صيف عام 1995 عندما “كنت أتصفح عددًا من الأبحاث داخل القسم فوقعت عيني بعد حوالي 600 صفحة، قرب نهاية الدراسة، على هامش صغير يتعلق بإساءة معاملة أسرى الحرب على أيدي أفراد من لواء المظلات، وقد اعتمد الباحث في توثيقه على محضر اجتماع لضباط المظلات برئاسة قائد اللواء أرييل شارون وقائد الكتبية رافاييل إيتان عقد في أعقاب الحرب”.
كشف الذي كان جنديًا ثم ضابطًا قبل أن يكون مؤرخًا النقاب لأول مرة عن قيام قوات إسرائيل عام 1956 بقتل خمسة وثلاثين أسيرًا مصريًا في غربي سيناء لا حول لهم ولا قوة. أثناء هذا العدوان الثلاثي نزلت وراء الخطوط المصرية كتيبة مظلات إسرائيلية في منطقة ممر متلا. حين تقدمت وقع بين أيديها تسعة وأربعون أسيرًا مصريًا وسودانيًا من عمال الطرق المدنيين. استسلموا بجلابيبهم وسراويلهم. قيدت أيديهم من الخلف. طرحوا أرضًا. ثم أفرغت رصاصة أو رصاصتان في رأس كل منهم.. هكذا، في برود دم وبرود أعصاب. تقدمت الكتيبة، بعد ذلك نحو الجنوب في اتجاه رأس سدر. في طريقها ذبحت أولاً ستة وخمسين جنديًا ومدنيًا عزلاً من السلاح داخل شاحنتهم.. هكذا، فتحوا النار من وراء الساتر القماشي في مؤخرة الشاحنة على من بداخلها دون أن يضيعوا وقتًا في معرفة من كان بداخلها. يقول أحد جنود الكتيبة الإسرائيلية إنه بكى حين رفع أحد زملائه ما تبقى من الساتر القمائي كي يروا مشهد القتلى داخل الشاحنة. المصير نفسه لقيه مئة وثمانية وستون جنديًا مصريًا آخرين أعلنوا استسلامهم بالقرب من رأس سدر. هذه الأرقام من الإحصاءات الإسرائيلية  لا المصرية.
في مزرعته بالقرب من تل أبيب يهوى من كان أحد ضباط تلك الكتيبة تربية الخيول العربية. جسد مفتول العضلات لا يزال رغم مرور السنين، وعنق غليظ ووجه صارم زاد من صرامته شج غائر من أثر المعارك يشوه نصفه الأيمن. ينتقي العقيد المتقاعد، داني وولف، كلماته أمام كاميرا قناة الجزيرة بمنتهى الحرص والتحفظ، لكنه يعترف ويحاول البحث عن مبررات: “كل من علم بها اعتقد أنها جريمة وأنها قبيحة، ولم أجد أحدًا يوافق على ما حدث. ولكن الظروف التي أحاطت بنا كانت في غاية الخصوصية؛ إذ كنا ثلاثمئة من جنود المظلات على بعد مئتي كيلومتر خلف خطوط العدو. كان المصريون حولنا من جميع الاتجاهات، ولم تكن تصلنا إمدادات؛ ولم يكن لدينا سوى القليل من الماء والقليل من الطعام. أنا لا أحاول، ولا أريد أن يسيء أحد هنا فهمي فيظن أنني أوافق على ما فعله قائدي، ولكن البديل كان أن نلقي بهم إل الصحراء كي يموتوا هناك”.
“هذه محاولة للتبرير لا يمكن قبولها على الإطلاق، حتى في ظروف الحرب”، يقطع المحقق الصحفي في التليفزيون الإسرائيلي المستقل، يورام بنور، الطريق من أولها ويقتبس عن المقولة العربية “إن البدوي أخذ ثأره بعد أربعين سنة وقال: استعجلت”، ويضيف أنه “لا يُتوقع من الناس بشكل عام، والعرب بشكل خاص، أن ينسوا ما حدث؛ فما حدث هو جريمة حرب، ما حدث له اسم في القانون الدولي: جريمة حرب”.
مد العقيد المتقاعد يده نحو الطاولة واختطف علبة السجائر وبدأ يشعل سيجارة فيما كان يؤكد لنا في الوقت نفسه تسلسل القيادة في لواء المظلات الذي كانت كتيبته قطاعًا منه. كان قائده المباشر القاتل صاحب الضمير المعذب، الذي صرح بعد فعلته تلك بأنه على استعداد لأن يفعلها مرة أخرى، الجنرال المتقاعد إرييه بيرو الذي كان وقتها برتبة رائد. وكان قائد قائده صاحب السمعة السيئة، المرتبطة بمذبحة صبرا وشاتيلا، رافاييل إيتان. وكان قائد قائده صاحب السمعة الأسوأ، المرتبطة بغزو لبنان واحتقار العرب، أرييل شارون. في سياق بحثي عن الحقيقة لا أتورع عن لقاء الشيطان؛ فما في القلب في القلب على أية حال. لكن بحورًا من الدماء ودينًا وعروبة وقفت جميعًا حائلاً نفسيًا هائلاً بيني وبين هؤلاء السفاحين. إن الجندي الشريف يقتل للوصول إلى هدف عسكري في معرككة عادلة، لكن هؤلاء قتلوا آباءنا وإخوتنا وأبناءنا لمجرد أنهم عرب مسلمون. هنا يتحول الأمر كله إلى قضية شخصية عرقية قومية دينية، وهنا لا أستطيع التفريق بين الصحفي والإنسان داخلي.
كلفت مساعدتي الإنغليزية بمهمة الاتصال بهؤلاء الثلاثة. عادت إلي كي تقول: “شارون” بجوار زوجته المريضة على سرير الموت، و “إيتان” شتمني وحذرني من معاودة الاتصال و “بيرو” مات قبل عام. طلبت منها أن تنسى إيتان وأن تركز أولاً على بيرو ثم على شارون. بعد أسبوع ماتت زوجة شارون بالسرطان ودخل هو في حالة اكتئاب، ثم ألقت الصدفة البحتة بمفاجأة على مكتبي: بيرون لا يزال حيًا يرزق، وإن كان لا يفارق سرير المرض، في مستوطننة بالقرب من تل أبيب، لكن ابنته منعت عنه استقبال أحد أو الرد على الهاتف. دسست عليها صحفيًا إسرائيليًا. حين علمت أننا نمثل قناة عربية أغلقت الهاتف.
أما هذا الـ “رافاييل إيتان” فهو جزار حتى في سحنته وفي مشيته. حيت سئل إرييه بيرو إن كان قائده، إيتان، على علم وقتها بمذابح الأسرى المصريين في غربي سيناء رد بكلمة واحدة: “اسألوه”. ورغم أن في الرد ما يكفي من الإيحاء، فإن الباحث الإسرائيلي، موتي غولاني، يؤكد لنا بالدليل القاطع تورط إيتان في تلك المذابح. “أنا متأكد من أنه كان على علم… بلا شك. لقد قالها بنفسه. قال إنه كان على علم بها. وقد توصلت إلى ذلك من واقع محضر اجتماع عقد في لواء المظلات بعد أسبوعين على انتهاء الحرب اعترف أثناه رافاييل إيتان بأنهم قتلوا الأسرى المصريين بحجة أن هؤلاء كانوا يتضاحكون عليهم ويهددونهم بأن زملائهم في الجيش المصري سينقذونهم”.
في بداية شهر أغسطس /آب من عام 1995 كانت “صحوة ضمير” قد أصابت الجنرال المتقاعد، إرييه بيرو، فأفاض لبعض الصحف الإسرائيلية بتفاصيل المذابح. اعترف، وفي اعترافه إحساس عنصري وقح بالفخر والبطولة بما فعله بأسرى مصريين لا حول لهم ولا قوة؛ “أنا ابن الهولوكست، فلتنظروا إلي فقد أخذت بثأري”. عندما سئل عمن قتل الأسرى بيديه قال:
أحد الضباط وأنا.
•    هل ربطتم وثاق الأسرى قبل قتلهم؟
–    إنكم تسألون أسئلة غريبة، ولكن… نعم ربطناهم.
•    كم كان عددهم؟
–    ليس لهم عدد معين.. لقد قتلنا مئات.
•    كيف كانوا قبل قتلهم؟
–    منهم من رقد على بطنه، ومنهم من وقف مذهولاً.
•    هل تعتبر ما فعلت جريمة؟
–    إن قتل المصريين كان واجبًا، وإن أي مصري ابن عاهرة كان يعلم عنا شيئًا كان يستحق الموت.
•    هل حققوا معكم بعد ذلك؟
–    لا، لقد أصدروا قرارات ترقية للجنود والضباط جميعهم.

“أنا لا أستطيع تمثيل الجنرال بيرو، لكن ما فعله كان جريمة، وكان رد فعله غبيًا، أخيرًا يصف العقيد المتقاعد، داني وولف، بهذه الكلمات المباشرة، سلوك قائده آنذاك. وفي تلك الأثناء قاد أحد الفدائيين الطبيب المصري، أحمد الفنجري، تحت جنح الليل، من مستشفى غزة إلى مستشفى خان يونس. هناك صدم بأكوام من القتلى والمصابين بين عسكريين ومدنيين، ثلاثمائة على حد تقديره، لكنه لم يكد يبدأ في عملية الإسعاف الأولي لمن تبقت في صدورهم إشارة إلى روح.
هكذا يسحب الطبيب المصري حزمة عريضة من الهواء إلى صدره ثم يطلقها في زفير حاد وهو يتذكر مغروق العينين: “كنت وقتها أقوم بعملية نقل دم لضابط  مصري جريح، وفجأة انهالت علينا جميعًا داخل المستشفى طلقات الرشاشات من كل جانب. من كشافة الطلقات وانتشار الذعر وقعت على الأرض وانقلبت الأسرة بمن كان عليها من جرحى مدنيين وعسكريين فوقي وغبت عن الوعي”. يلفظ الرجل أنفاسه وتفر رغمًا عنه دمعة لكنه يستطرد: “عندما أفقت أطبق على سمعي صمت رهيب كأنني في مقبرة. تحسست سائلاً في بحر من الدماء. تملكني الذعر فلم أستطع الوقوف على قدمي. زحفت على بطني بين الجثث المبعثرة حتى وصلت إلى غرفة العمليات فوجدت جميع زملائي الأطباء قتلى في مشهد تشيب له الوِلدان”.

يسري فوده – برنامج سري للغاية على قناة الجزيرة –  من كتاب الطريق الى عتليت –  لناشره الشركة العالمية للكتاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى