المقالات

الغرب يتماهى مع الهمجيَّة الاسرائيليَّة: اقتلوهم دون رحمة – د. هلا رشيد أمون/ جريدة النهار/ صفحة قضايا

بعد ثلاثة أعوام من سقوط جدار برلين الشهير في العام ۱۹۸۹، قال “فرنسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”: “إنَّ هذا الحدث لا يعني نهاية الحرب الباردة، وإنما أيضاً الإنتصار النهائي للنموذج الديموقراطي الليبرالي، على النظام الشيوعي الذي كان موجوداً في الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية الشرقية” . وقد استند فوكوياما على فلسفة الفيلسوف الالماني “فريدريك هيغل” ليعلن أن البشرية قد وصلت الى المرحلة الأخيرة من تطورها. فبعد ان اعترفت جميع شعوب الأرض بتفوق الديمقراطية الليبرالية كنظام حُكمٍ، على جميع الأنظمة الأخرى، بات بإمكاننا ان نعتبر تاريخ الانسان، وكأنه قد اقترب من هدفه وغايته الأساسية أو نهايته” .
ولكن بعد سقوط الشيوعية، وإنتهاء الحرب الباردة بين الثنائية القطبية في قيادة العالم، ظهر “الإسلام” كأعظم خطر على أمنِ الغرب، وبدأ ظهور النظريات السياسية التي تتنبأ بالصراع بين الحضارات والأديان على المستوى الثقافي والسياسي.

ففي كتابه “الاسلام والغرب” الذي صدر في العام ١٩٩٣، اعتبر “برنارد لويس” انه لِما يقرب من ألف سنة، كانت أوروبا تحت تهديدٍ مستمر من الاسلام. وكتب “صاموئيل هانتنغتون”: “يقول بعض الغربيين إن الغرب ليس بينه وبين الاسلام أي مشكلة، وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرناً من التاريخ تقول عكس ذلك. العلاقات بين الاسلام والمسيحية، كانت عاصفةً غالباً. وصراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية، ليس سوى ظاهرةٍ سطحية وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الاسلام والمسيحية. إن المشكلة المهمة بالنسبة الى الغرب ليست الأصولية الاسلامية، بل الاسلام” .

واعتبارُ الاسلام “العدو الجديد” للحضارة الغربية، والخطر الداهم الآتي من الشرق إلى الغرب، كان يتطلب خطةً لشيطنة المسلمين، عبر خلق صورة نمطية يظهر الإسلام من خلالها ميَّالاً بالفطرة للقتال والعنف والدموية، وعاجزاً عن التوافق مع الديمقراطية والروح العصرية؛ ويظهر المسلمون كأناسٍ برابرة حاقدين على الغرب، ينتمون إلى القرون الوسطى في نمط عيشهم وطريقة ملبسهم وتفكيرهم؛ وتظهر الثقافة الإسلامية على أنها ثقافة متحجَّرة وغير قابلةٍ للتغيير أو للتطوير.

ولكن كيف تشكّل ذلك النموذج الديموقراطي الليبرالي المتفوق على غيره، الذي به انتهى التاريخ ؟ وما هي المنظومة القيمية والأخلاقية والقانونية التي يجسدها او يروّج لها هذا الغرب، والتي تميّزه عن غيره من نماذج الحُكم التي انتصر عليها؟

لو راجعنا تاريخ هذا النموذج المنتصر، لوجدنا ما يلي: هذا الغرب قد ارتكب جرائم الإبادة الجماعية ضد القبائل في الامريكيتين، وأرسى قوانين الفصل العنصري ونظام الرق والعبودية (وصل عدد العبيد الأفارقة في الولايات المتحدة في العام ١٨٦٠ إلى اربعة ملايين عبد) واستخدم الاسلحة النووية في هيروشيما وناكازاكي. وهو الذي شنّت دوله حربين عالميتين أزهقتا أرواح ملايين البشر، معتمداً مبدأ “الحرب الشاملة” (لا تمييز فيها بين أهداف مدنية وعسكرية، بين مسلح وأعزل، بين راشد وطفل) التي تستبطن “الإبادة الجماعية”، ثم “التطهير العرقي”. وهذا الغرب هو الذي طوَّر مفهوم “الحرب الاستباقية” التي هي عدوانٌ صريح على الدول الضعيفة، بحجة القضاء على عدو أو خطرٍ محتملٍ (الارهاب) من شأنه أن يهدد أمن دولة عظمى. وتحت هذه الحجة شنَّت الولايات المتحدة الحرب على أفغانستان، ومارست العنف اللامحدود واللامبرر في غزوها للعراق.

وهذا الإرث التاريخي المشبع بالدموية والهمجية، يقوّض الإدعاءات الغربية بأنها النموذج الإنساني الأمثل للتسامح والعدالة والحرية والديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان والاعتراف بالآخر المختلف . والتجارب تثبت كل يوم، أن هذا الغرب مستعد للإنقلاب على كل القيم والمبادىء والافكار الفلسفية التنويرية الحداثية، إذا شعر بأن حمايتها خارج حدوده، يتعارض مع مصالحه الاقتصادية والحيوية والقومية والاستعمارية.

ففي أحداث غزة الحالية مثلاً ، تحولت المنظومة القيمية الغربية المنتصرة، الى منظومة تقتل، تسحق، تسحل، تدمر . “الحريةُ” فيها هي حرية القتل. و”الحقُ” هو الحق في ارتكاب المجازر والابادة الجماعية. و”القانون” هو قانون الغاب والتوحش . و”النقد” للمحرقة الفلسطينية، هو جريمةٌ ومعاداةٌ للسامية .

وهذا الواقع من شأنه أن يفضح الحالة الفصامية أو الثنائية وازدواجية المعايير التي وقع في فخها، الغربُ المتفاخر بنفسه. فهو من جهةٍ يحرص على تلميع صورته كرمزٍ فريدٍ في تطبيق قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والقانون، ومن جهةٍ ثانية، يمارس أبشـع أنواع الإستغلال والإمتهان لشعوب المجتمعات الأخرى، ولاسيما الاسلامية (صمتهُ عن المجزرة السورية والاكتفاء ببيانات الشجب)
فالغرب يدعي محاربة “الإرهاب الإسلامي” (وهو الذي استغل حماسة الجهاديين في الحركات الإسلامية، لتحقيق انتصار تاريخي على عدُّوه الشيوعي في أفغانستان) ولكنه يؤمن بأن إستمرار ظاهرة “التطرف الديني” في المجتمعات الاسلامية، هو أفضل ضمان له لإستمرار ضعف الأمة الإسلامية وتخلفها، ولاستمرار سيطرته على ثرواتها.

مجازر غزة باعتبارها استمراراً لذلك الإرث الدموي والتاريخ العنصري

الحقيقة أن لا شيء يضاهي وحشية ماكينة القتل الإسرائيلية التي ترتكب المجازر يومياً في غزة، الا وحشية اصطفاف النخب السياسية والفكرية الحاكمة في الغرب (بعكس الحراك الشعبي الغربي الذي ظهر أنه يشكل خرقاً جديَّاً لإجماع الاستبلشمنت الداعم لاسرائيل) وراء سمفونية “حق إسرائيل بالدفاع المشروع عن نفسها”، وانحياز صُنّاع الرأي الغربي (الماكينة السياسة/ الاعلامية/ الأمنية) للرواية الاسرائيلية الكاذبة عما جرى فجر السابع من تشرين. *وحشيةٌ سافرة، عارية، دون قفازات ودون دبلوماسية، برَّرت لاسرائيل “حقها” المزعوم في القتل والتدمير والانتقام من “مدنيين” أسقطت عنهم صفتهم “الانسانية”، وتعاملت معهم على انهم “شرٌّ مطلق” يستحق “عنفاً مطلقاً” للقضاء عليه. “حيواناتٌ بشرية” لا ينتمون الى العالم المتحضر . “برابرة” يهددون قيم الغرب. “ارهابيون” و”ظلاميون” لا يستحقون الحياة .
ولذلك، لا غرابة إن وَصَف “بنيامين نتنياهو” الحرب على حماس، بأنها “حرب بين النور والظلام” ؛ وإن وصفها “دونالد ترامب” بأنها *”معركة بين الحضارة والتوحش، بين الأدب والفجور، بين الخير والشر”*، وتعهد بالانتقام بشكل “يتجاوز أيَّ تفكير” ؛ وإن صنَّف “ايمانويل ماكرون” حماس بأنها “منظمة ارهابية تشبه داعش والقاعدة”، واقتراحه على شركائه “إنشاء تحالف اقليمي دولي، لمكافحة التنظيمات الارهابية التي تهددنا جميعاً”، ناصحاً الاسرائيليين بأن تكون “المكافحة دون رحمة” .

هذا الطوفان العنصري/ الفاشي/ النازي الذي أعقب “طوفان الأقصى”، أرجعنا ٢٢ سنة الى الوراء، الى أيلول من العام ٢٠٠١ ، والى الفترة التي سبقت الغزو الامريكي للعراق، وتحديداً الى خطابات “الحرب على الإرهاب”، وعلى “تنظيم القاعدة”، والى شعار “جورج بوش” أن الصراع هو بين الخير (أمريكا) والشرّ (العرب والمسلمون) و “مَن ليس معنا، فهو ضدنا” ، والى كل هذه البروباغندا السياسية التي نجحت في تفشي ظاهرة “الاسلاموفوبيا” في العالم، وفي شيطنة العرب والمسلمين.

فهذا الغرب الذي ارتكب “الخطيئة الأصلية” عندما اعتقد أنه كفَّر عن ذنبه عن “المحرقة اليهودية” في المانيا النازية بإهدائه أرض فلسطين لليهود، بحاجة دائمة الى “عدوّ” يجسد الشرّ كله، لكي يتمكن من تقديم نفسه على أنه الخير كله. ولكنه تمادى هذه المرة، في انحيازه الأعمى غير العقلاني وغير الأخلاقي لاسرائيل، الى حدّ التماهي مع جرائمها، معلناً أنه بدعمه إسرائيل، انما يدافع عن نفسه. وهذا ما قصده الرئيس الامريكي “جو بايدن” الذي اكتشف انه صهيوني، عندما قال: ” لو لم توجد اسرائيل، لوجب على الولايات المتحدة اختراعها” .

ومن هذا الإرث العنصري المتوحش، جاء الضوء الأخضر الغربي لسفك الدم الأحمر العربي، ولممارسة “الهمجيَّة” في أجلى صورها، التي تعني فعلياً لا مجازاً : في غزة لا يوجد قاتل ومقتول، مجرم وبريء، جلاد وضحية، بل فيها متحضِّر وبربري، يهودي وارهابي، مَن يستحق الحياة ومَن لا يستحقها، فاقتلوا مَن لا يستحق الحياة دون رحمة ودون قواعد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى