المقالات

هي خلاف موازنة أم غلاف مخازنة …*كتب الإعلامي د. باسم عساف في جريدة الشرق – بيروت

     
         *يشتهر لبنان بأنه بلد الحريات ، وتتميَّز فيه الصحافة والإعلام ، بحيِّزٍ كبيرٍ من  الحرية في نقل الوقائع والأحداث ، دون تقطيعٍ ورقابةٍ ، خاصَّةً للنقل المباشر ، والتعليق عليها ، وفق سياسة الجريدة والمجلة ، وأيضاً الإذاعة والقناة المتلفزة ، والتي تخضع لقانون المطبوعات وليس للمحاكم العادية المدنية ، مما يعطيها الحيويَّة في التحرك بالقول والعمل ، حتى باتت تحمل صفة السلطة الرابعة ، أي بعد التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وربما باتت في تطورها وتحديث وسائلها ، السلطة الأولى ، التي يخشاها كل هؤلاء ، حيث باتت بيوتهم من زجاج ، وخوفهم يجعل رؤوسهم في إرتجاج ، لما يسلكونه من إعوجاج ، ليفضحهم الإعلام الإستقصائي بالإحتجاج ...*
       النقل الإعلامي المباشر  للأحداث الجارية أو للمناسبات ، في أي مكان بالعالم ، يجعل الرأي العام رقيباً وحسيباً على كل ما يجري ويحدث آنيَّاً ، بحيث يُكوِّن الصورة الجلِيَّة عند كل مشتركٍ ومتابعٍ للحدث ، من دون رتوشٍ أو تعديلٍ بما يجري مباشرة ، وهنا تكمن العلَّة لمن يقوم بأي عملٍ أو حركةٍ فاضحةٍ ، وخارجةٍ عن المألوف أو سلوك الدرب الصحيح في مجرى الأمور ...
         *وهذا ما يظهر أكثر خطورةً في الحروب والأحداث ، التي تطال المدنيين والأبرياء كما يحدث حالياً في غزة ، حيث الإعلام المباشر ، والنقل عبر شبكات التواصل الإجتماعي ، قد قلبت الصورة وبيَّنت الفضائح بما يجري من قتل وتدمير ،  قد جاوز كلَّ ما هو معقول  للإنسان والإنسانية ، لذا شكَّل الرأي العام الدولي ، الضغط الوافي على مجرمي الحرب عالمياً بمواقف الدول ، وإنتفاضة شعوبها ، ومحلياً في فلسطين ومواجهة مقاوميها ...*
      أيضاً فإن النقل المباشر للإعلام ، وتحريك شبكات التواصل الإجتماعي لما جرى في مجلس النواب اللبناني ، خلال جلسة مناقشة قطع الحساب وتقديم موازنة سنة/ ٢٠٢٤ قد فضح المستور ، لكل من كان يريد تمريرها ، وفرضها على أرض الواقع ، سيما وأن العديد من القرارات الشعبوية والمصلحية تمرَّر على حين غرَّة ، وعبر أنفاق المجلس النيابي ، المقَيَّد دستورياً بدورات الإستحقاق الإنتخابي الرئآسي ، في ظِلِّ غياب وعدم وجود رئيسٍ للجمهورية ، وفي ظل مجلسٍ للوزراء  فاقدٍ للشرعية ، بعدم وجود الثقة النيابية له ، وعدم حقِّ إتخاذ المراسيم الحكومية الدستورية ،  لعدم وجود الإجماع وغياب المكوِّن الأساسي ، الذي يعوِّض الفراغ الرئآسي ...
       *إن ما جرى من إنقسامٍ بالمواقف المطالبة بعدم التشريع وإتخاذ القوانين ، في ظل الدستور الذي يحدد مهام المجلس ، بأنه في حالة الإستحقاق الإنتخابي فقط ، وبين من يدَّعي أن المجلس وحتى الحكومة  هما في حالة تشريع وتقرير أحكام الضرورة ، ومن ضمنها إقرار الموازنة ، لأجل تسيير عجلة الدولة ومؤسساتها ومواجهة المستجدات والأحداث الجارية في الداخل وعلى الحدود ، ولحين الإتفاق والتوافق على مرشحي الرئآسة الأولى ، ودفع ذلك إلى ملعب أركان الطائفة المارونية حيث العرف يحدد الرئيس من رعاياها ، وهي حجَّةٌ واهيةٌ في ظل قاعدة الديموقراطية والإنتخاب الأكثري ، كما كان يجري على مدى عهود الدولة اللبنانية المتعاقبة ، حتى أن بينهم من فاز بالرئآسة عل صوت واحد ...*
       هذه الفضائح التي تجري مع مجلسي النواب والوزراء ، هي من حيث الشكل الذي يخالف الدستور ، وأن التفاصيل في مضمون المقررات والقوانين التي تتخذ فيها ، فحدِّث ولا حرج ، خاصةً بما ورد في بيان اللجنة المالية ، حول التقرير المقدَّم للمصادقة عليه ، وبأرقام قد فاقت الخيال ، أكان ذلك بالزيادة أو النقصان لقطع الحساب عن سنة /٢٠٢٣ ، من دون أوراق ثبوتية لمصاريف الوزارات ، ومن دون إحتساب واقعي وموضوعي لميزانيَّة سنة / ٢٠٢٤ وكيفية تأمين إيراداتها ، مع التوزيع العادل لإعتماداتها بين الوزارات ، وفق المستجدات والحاجات المطلوبة لكل منها ،  خاصةً وأن اللعبة السياسية تأخذ مجراها ، على مستوى مراكز القوى ومدى السيطرة على الوزارات والمؤسسات والأجهزة ، بما يتوافق مع مسار المنظومة السياسية المتحكمة بالمال والأحوال ومفاصل التوزيع  بالتحاصص والتخابص بالمصرف والمصارف ، الذي يرى بعينٍ واحدةٍ ، ويسير بالبلاد على رجلٍ واحدة ، تميل حيث الأهواء والنزوات ، وفرض المصالح بالفساد والخوات ... 
      *أيُّ بلدٍ في العالم ، يقوم على الإدارة السياسية المبنية على المزاجية والمصلحة التحاصصية ...*  
       وأيُّ بلدٍ يحتسب قطع حساباته وموازنتة على عِدَّة أرقامٍ لإحتساب نسبة صرف الدولار ...
      *وأيُّ بلدٍ يتقدّم بمستنداته وأوراقه الثبوتية ، بعد فوات الأوان ودخول المهل ، سنة على سنةٍ من المصاريف المنصرمة ،  والتقدير للمصاريف المتقدِّمة ...*
        وأي دولة هذه التي تكون حساباتها سياسية قبل أن  تكون حرفيَّة ومهنيّة ونظاميُة ، وبالطبع لن نجد ذلك في أي دولة إلا في جمهورية الموز ، وفي لبنان بالذات ، المتميِّز بكل شيء ، أكان بالبشر : كشعبٍ وقادةٍ سياسيين ومسؤولين ، أو كطبيعةٍ : من ماء البحر بالساحل  ، حتى ماء الثلج على الجبال ...
       *وحتى بنظامه الديموقراطي : الذي بات بالتوافقي ، وبالكوتا والمحاصصة الطائفية والمذهبية ، أو حتى بقاعدة فصل السلطات : التي تحوَّلت إلى الميثاقيّة وتوزيع المغانم عبر الكتل النيابيّة  المنحدرة من التيارات والأحزاب والحركات ، التي تتوزعها كحصصٍ وهباتٍ وكوتا للموالين ، الذين يسيرون بركب المنظومة السياسية وخارطة طريقها ...*
      هكذا بات لبنان ، أو هكذا باتوا يريدونه على نمط الأنظمة الشمولية ، التي يتحكم بها الأشراف ، ممن إمتهن التسلّط والهيمنة ، وفق النزوات العقائدية أو الفكرية ، التي تنتظم تحت مبدأ التملُّك والتحكُّم بكل مفاصل الحياة للبشر والحجر والشجر  ، على نمط وسياسة شعب الله المختار حيث (القالب غالب) على شاكلتهم ...
       *وهكذا يتجسد القمع والتحكم ليس في مجلس النواب والوزراء ، إنما على كُلّ من يتحرك في لبنان والمنطقة ككل ، والمشكلة أنها تعمل بقلوب مليانة  قد شهدت عليها عين الرمانة ، وهي مخَزَّنة في العقول والقلوب  ، بمصالح وأنانياتٍ بحساسيتها ، وليس فقط في خزينة الدولة وميزانيتها  ، ومن هنا نستطيع القول : بأن القصَّة بمجملها ، ليست على خلاف موازنةبالعيوب ، بل على غلاف مخازنة بالجيوب ...*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى