المقالات

تحديات ومستقبل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران في ظل عالم متغيّرالمصدر: “النهار” إيمان درنيقة الكمالي أستاذة جامعيّة – باحثة سياسيّة

يشير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه “مذكرات سجن” إلى أنّ الأزمة تتمثّل بدقة بحقيقة أنّ القديم يموت، والجديد يتعذر ميلاده؛ وفي هذه الفترة الانتقالية، كثير من العوارض الخبيثة تظهر على السطح”.

لا شك في أننا نمرّ اليوم بـ”الفترة الانتقالية” التي حذر منها “غرامشي”، في ظل المتغيرات المعقدة والتجاذبات والاضطرابات والإخفاقات في سياق التاريخ والعالم والزمان.

إنها مرحلة يشوبها الكثير من الغموض والالتباس؛ هي مرحلة لا اسم لها و”لا هوية”، بل هي مرحلة “الفوضى في النظام العالمي”؛ الفوضى في كل التفاصيل وفي التطبيق على أرض الواقع، بعد أن بدت قيادة النظام ضعيفة وواهنة لا تكاد تلتقط قضية، إلا وتتبعها قضايا، من الأمن، إلى الاقتصاد، إلى السياسة، إلى الاجتماع، إلى الثقافة.

وفي ظل هذه الإخفاقات المنتشرة في كل المجالات، يواجه النظام العالمي الحالي موتًا سريرياً بطيئاً، بينما يناضل نظام جديد للظهور. وتشهد العلاقات الدولية تحولات متسارعة ومتعددة الأبعاد، وتبرز دول جديدة وصاعدة تسعى للتربع على عرش الزعامة العالمية. وفي هذا السياق، يأتي التفاهم #الصيني- الإيراني، وهو عبارة عن خطة عمل شاملة، أو “خريطة طريق”، وتعاون تجاري واستراتيجي لتعزيز العلاقات الإيرانية الصينية. ولا تقتصر مجالات التعاون على الطاقة فقط، بل تشمل مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك الاقتصاد، والتجارة، والبنية التحتية، والتكنولوجيا والاتصالات، والـcyber security .

مما لا شك فيه أنّ توقيت الاتفاقية مهم جداً بالنسبة للبلدين. فهو يأتي بعد رفع الحظر الأممي الذي فرضته الأمم المتحدة وفقاً للقرار رقم 2231 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 2015، والذي يسمح لإيران وبشكل تلقائيّ بشراء وبيع الأسلحة التقليدية بعد 5 سنوات من تاريخ القرار، وفي ظل معاناة طهران من سطوة العقوبات الأميركية الأحادية الجانب، وتعثر المفاوضات بشأن العودة إلى الاتفاق النووي.

وبالنسبة للصين، تُمثل الاتفاقية خطوة مهمة لتعزيز أمن الطاقة، حيث تُؤمن لها الحصول على احتياجاتها من النفط والغاز من دولة غير خاضعة للنفوذ الغربي، وعبر ممرات ملاحية جديدة لا يتحكّم بها الغرب. كذلك تأتي الاتفاقية في ظلّ توتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة حول القضايا التجارية، والعسكرية، والأمنية، والتكنولوجية.

والاتفاقية هي، كما وصفها الكاتب والمحلل الجيوسياسي الأميركي روبرت كابلين، “تحالف لا يهزم “Unbeatable combination”، و”نقطة تحول” Game Changer في السياسة والعلاقات الدولية.

فمن ناحيةٍ، الصين اليوم قوة عالمية، بفضل ثقلها الديموغرافي، وقوتها الاقتصادية الناعمة، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي المطلّ على بحر الصين الجنوبي، وإطلالتها على مضائق حيويّة وممرّات ملاحيّة ذات أهميّة استراتيجية وجيوبوليتيكية، إضافة إلى قوتها العسكرية المتنامية، خاصةً في مجال الصواريخ والطائرات المُسيّرة، والأسلحة الذكيّة، واقتصادها القوي، وحضورها السياسيّ الفاعل.

ومن ناحية إيران، فقد أثبتت أنها دولة لها مكانتها الإقليمية، وصاحبة قرار في منطقة الشرق الأوسط. وقد استفادت من موقعها الجغرافي بتوسّطها أهم مركزين للطاقة، الخليج وبحر قزوين. وتعتبر نقطة ارتكاز في مشروع الحزام والطريق الصينيّ، كما أنّ موقعها قرب مضيق هرمز وتحكّمها به يعطيها قوة إضافية، إذ يمكن لإيران تعطيل العمل في المضيق كليّاً أو جزئياً؛ الأمر الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة على التجارة العالمية والاقتصاد العالمي. كذلك، تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي من الغاز في العالم بعد روسيا، واحتياطيّات هائلة من النفط. وتتمتع بقوات حربية ضخمة وقوات عسكرية تتمثل بالجيش النظامي والحرس الثوري، إضافة إلى أذرعها المنتشرة في الشرق الأوسط والعالم، وبرنامجها النووي المتقدّم.

وللاتفاقية منافع كثيرة لكلّ من الصين وإيران
بالنسبة لإيران، ستكون الاتفاقية مقدمة لفكّ عزلتها الدولية وجعلها جزءاً لا يتجزأ من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتعزيز دورها في التجارة الدولية “الترانزيت”. كما ستعمل الاتفاقية على “انخراط” إيران في التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية الإقليمية والدولية كمنظمة شانغهاي و مجموعة البريكس. وستساعد الصين على توسيع القدرة العسكرية الإيرانية من خلال تطوير أسطولها الجوي والبحري والبري، وتأسيس معامل إنتاج أسلحة صينية على الأراضي الإيرانيّة.

إلى ذلك، ستؤمن الاتفاقية للصين كمية من النفط الإيراني تلبّي قرابة 60% من احتياجاتها النفطية، وتضمن لها الحصول على إمداداتٍ ثابتة من النفط، والبتروكيماويات، بأسعار مخفّضة قدّرت بنحو 32% وبأكلاف شحن قليلة نسبياً، مع إمكانية الدفع المؤجل، أو الدفع بالعملة الوطنية الصينية، في إطار المسعى الكبير لكسر هيمنة الدولار الأميركي، إضافة إلى إمكانية تصدير التكنولوجيا الصينية عبر البوابة الإيرانية، وتزويد إيران بخدمات الجيل الخامس G5 في الاتصالات، وتقنية “البايدو” الصينية، وتكنولوجيا مراقبة الخطوط الأرضية والخلوية، وأنواع متقدّمة من الأسلحة الجوية والبرية والبحرية الصينية.

وتلحظ الاتفاقية تعزيز مكانة الصين السياسية والعسكرية من خلال الموانئ المقترح إنشاؤها في إيران، وأهمّها ميناء جاسك المطلّ على مضيق هرمز الذي يشكّل تحديًا لنفوذ الولايات المتّحدة في المنطقة.

وستسمح الاتفاقية للصين بتطبيق سياسة التطويق والاحتواء عن طريق بناء مجموعة من الموانئ المعروفة بـ”خيوط اللؤلؤ” على طول المحيط الهندي، والتي ستكون ذات قيمة عسكرية، تسمح للبحرية الصينية، التي تتطوّر باضطراد، بتوسيع نفوذها لبناء نظام إقليمي ‏بقيادتها في آسيا الوسطى، تمهيداً لقيادة النظام العالمي. كما تعزّز الاتفاقية رسالة إيران بالتوجّه شرقاً، مع ما يمثله ذلك من إمكانية عقد اتفاقيات من شانها تبديل المشهد الدولي.

وتعتبر الاتفاقية مدخلًا لتغيير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة. وتحاول الصين بمخلبها الاستراتيجي الموجّه نحو الولايات المتحدة وحلفائها خلق ترتيبات وتوازنات جديدة عبر ربط الدول من خلال الممرات، وتشكيل محاور جديدة شديدة التعقيد والتشابك، أهمها “ترويكا” المحور “إيران – الصين- روسيا”. ومن المتوقع تقارب باكستان مع هذا المحور. ولا بدّ للولايات أنْ تحاول إقامة تحالفات جديدة مع دول أخرى للوقوف بوجه الصين. وقد تدفع هذه التّطورات إلى ظهور محور مقابل “أميركي-إسرائيلي-إماراتي”، مع إدراج الهند في هذا المحور.

أخيراً، ستؤثر الاتفاقية على علاقة قطبي الاتفاقية مع الجانب الأميركي. فبيجينغ تعرض نفسها وسيطاً لحلّ الصراع العربي الإسرائيلي. وكان لها دور في التقارب السعودي الإيراني أخيراً. في المقابل، فإن الولايات المتحدة، تزيد التصعيد، وترفع سقف التحدّي مع الصين من خلال حرب التكنولوجيا والاقتصاد، والاستعداد للمواجهة العسكرية في المحيط الهادئ. وتفرض الولايات المتحدة مزيداً من العقوبات على إيران. في المقابل، تستمرّ إيران في رفع مستوى التحدّي والتخصيب النووي، حتّى أنّها أعلنت وصولها في بعض المنشآت (فاردو) إلى نسبة تخصيب 84%، وقبولها بأن تأتي #أميركا للكشف على منشآتها.

في الختام، تُمثّل الاتفاقية الصينية-الإيرانية علامة فارقة في مسار العلاقات الدولية، وتُؤشّر إلى بداية تحوّلٍ استراتيجي في النظام العالمي. فهل ستسمح الولايات المتحدة لإيران بالحصول على التكنولوجيا أو الدعم العسكري من الصين؟ أم سنشهد مزيداً من الصدمات الأمنية، ومزيداً من العقوبات الاقتصادية، والتوترات على الساحة الدولية، التي قد تنتهي بمواجهة ساخنة بين بيجينغ وواشنطن؟
وهل ستندلع الحرب العالمية الثالثة من بوابة تايوان؟
وإذا انتهت الحرب العالمية الثانية باستخدام الأسلحة النووية، فكيف ستنتهي المواجهة مع الصين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى