التحقيقات

نحو تعريف جديد للإنسان يتجاوز التقليدي والسلوك المزعج والمؤذي والمهين \ أسامة إسماعيل

الخطأ التاريخي الذي وقع فيه الفلاسفة القدماء وبعض المعاصرين والأديان والمذاهب والإيديولوجيات هو تعريفهم الإنسان بأنه حيوان أو كائن إجتماعي بالمطلق. وبهذا التعريف لم يميزوا بينه والحيوانات الإجتماعية التي تعيش وتمشي في قطيع جماعي وبعضها يتسم بالشراسة والضراوة. فهذا التعريف يغلق الباب أمام العقل وإلارادة الفرديين بل يضعهما مع العاطفة والغريزة والمصلحة المادية والمعنوية في النطاق الجماعي الطائفي أو العائلي والعشائري أو الحزبي أو الشعبي. وهذا التعريف يفتح الباب أمام حالة القطيع بجموده وضجيجه والأنظمة والسياسات والعادات والتقاليد والطقوس التي تقوم على هذه الحالة، وكذلك الإقتصاد السيء وغير العادل، والحروب والضراوة والشراسة فيها. وفي المقابل، وقعت نظريات مابعد الحداثة، والوجودية والعدمية في خطأ تاريخي آخر عندما انطلقت في نقدها الفلسفات والنظريات والإيديولوجيات الأخرى والأديان التي تركز على البعد الإجتماعي للإنسان من اللاوعي والغريزة وقللت أهمية دور العقل وإلارادة في حرية الفرد واستقلاله أو الفردية

individulisation, مما يؤدي إلى النتيجة ذاتها التي أدت إليها نظريات الإنسان كائن أو حيوان إجتماعي بالمطلق، هي تهميش العقل وإلارادة الفرديين والنخبوي الحر المستقل.
يعني تعريف الإنسان بأنه كائن فردي إجتماعي بشروط وحدود معينة، قدرته على اللجوء إلى العزلة عندما يريد ذلك من جهة والتواصل مع الآخرين من جهة أخرى وفق مايقتضيه عقله وإرادته وحريته واستقلاله وكرامته وحقوقه وراحته، ويعني أيضاً قدرته بفضل عقله وإرادته على وضع العاطفة والغريزة والمصلحة المادية في النطاق الفردي والشخصي ضمن حدود معينة، والتواصل مع الآخر الذي يثق فيه وينسجم معه ويستفيد منه في ما يتعلق بهذه الأمور، ورفض تدخل من لاينسجم معه ولايثق فيه ولايستفيد منه أي غير الأصدقاء أو الأعداء في هذه الأمور.ويعني هذا التعريف أيضاً رفض الفرد مالايتوافق مع عقله وإرادته وحريته واستقلاله وكرامته وراحته وحقوقه في الدين والمذهب والإيديوجيا والسياسة والمجتمع والإقتصاد ورفض حالة القطيع والسير فيها، وخاصة رفض تقديس الأشخاص والولاء لهم وإعطائهم صفات فوق البشر والطبيعة، والمناسبات والطقوس المتعلقة بهم، والعادات السيئة المتعلقة بالزواج والفرح والحزن، والإنتخابات الشعبية العددية الطائفية الحزبية وافتعال الأزمات لأجل المناصب والسلطة والنفوذ والحصص، والإقتصاد السيء غير العادل في توزيع الثروة والموارد والوظائف وفرص العمل في القطاعين العام والخاص، وكذلك رفض واقع الإعلام في لبنان، حيث المحاصصة الطائفية والسياسية والحزبية والحالة الشعبوية مما يؤدي إلى هيمنة وسائل إعلام غير مستقلة وغير نخبوية وغير إرشادية وتغييرية على مجالات التأثير والدور والإيرادات والأرباح المالية. إن هذا التعريف للإنسان يدعو إلى أن تكون العلاقة مع المجتمع والدولة علاقة ندية حقوقية لاعلاقة خضوع واتباع وتقليد، فلا يخضع الفرد لمعتقدات وآراء وعادات ومناسبات وطقوس لاتتوافق مع عقله وإرادته وحريته واستقلاله وكرامته وحقوقه وراحته، ويرفض السياسات التي يكون هدفها السلطة والمناصب والنفوذ والمصالح المالية والمادية لمن يسمون “زعماء” وأحزاب والتابعين لهم والدول الخارجية الداعمة لهم، لاالتنمية الشاملة والعادلة وتحسين الأوضاع. وهذا مايحدث في لبنان حالياً، حيث السياسات الناتجة من ديموقراطية إنتخابية عددية طائفية حزبية عشائرية ولعبة دولية إقليمية تؤدي إلى واقع متخلف وظالم وفاسد واستبدادي وفوضوي وتهميش النخبوي الحر المستقل، كما تؤدي إلى أزمات تلو الأزمات دون حلول و معالجات شاملة وعادلة وناجعة. ففي الأزمة الحالية في لبنان إن مايسمى إصلاحات و معالجات من قبل المسؤولين عن الوضع السياسي والمالي والنقدي والإقتصادي تصب في خانة تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي عند المستوى المرتفع الأخير الذي وصل إليه مقابل الليرة اللبنانية، ما يفوق قدرة ذي الدخل المحدود والمنخفض. فإجراءات مصرف لبنان والمصارف مبنية على ذلك مثل “الهير كات” (Hair cut), وكذلك الموازنة العامة وزيادة الرواتب والأجور، وزيادة تعرفات الضرائب والرسوم. فلا إجراءات لتخفيض مستوى التضخم الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار، بالتوازي مع معالجة مشكلة الإنكماش التي تؤدي إلى زيادة البطالة وتراجع فرص العمل والتوظيف والمداخيل بالعملة المحلية، إذ أن الأزمة الحالية مركبة من تضخم وانكماش. ولكن أسباب هذه الأزمة ليست مالية ونقدية واقتصادية فحسب بل هي مرتبطة بسيئات النظام الديموقراطي الإنتخابي العددي الطائفي الحزبي العشائري والإدارة السيئة للدولة والشأن العام، والنظام الإقتصادي غير العادل وغير الخاضع لضوابط كافية. والمعالجة الشاملة والناجعة تقتضي النظر إلى هذه الأسباب. إن تعريف الإنسان بأنه كائن فردي اجتماعي بشروط وحدود معينة يقتضي التمييز بين الدولة والذين يديرون الدولة بطريقة تخدم مصالحهم ونفوذهم وغاياتهم الإنتخابية والتابعين لهم، وبين المجتمع والجماعة والقطيع الطائفي والعائلي العشائري والحزبي والشعبي، وبين جوهر الدين وأصله والمذهب والطائفة بمعتقداتها ومناسباتها وعاداتها وطقوسها التي تتعارض مع العقل وإلارادة الفرديين والعلم والإيمان الحقيقي، وبين الحرية والفوضى والشعبوية والسطحية التي لا تراعي حرية الآخر وخصوصيته وراحته وكرامته وحقوقه وحدوده، وبين التنظيم والتسلط والتعصب والقمع، وبين الإقتصاد من جهة والهدر والتقتير والتوزيع غير العادل للثروة والموارد والتحايل وتهريب الودائع إلى الخارج والتلاعب بسعر الصرف، وبين الجمود والهدوء، وبين النشاط والضجيج والعجيج العقيم والمزعج والإستفزازي والمهين.
إن تعريف الإنسان بأنه حيوان أو كائن إجتماعي بالمطلق هو مابنت عليه الحركة الصهيونية إيديولوجيتها وسعيها إلى احتلال فلسطين سنة 1948، إذ اعتبرت المولودين على المذهب اليهودي قطيعا”جماعيا” واحدا”تسيره باتجاه خدمة أهدافها، وفي حروبها المتتالية ضد الفلسطينيين والجوار، وخاصة حرب غزة الأخيرة، استعارة من بعض الحيوانات الإجتماعية شراستها وضراوتها الفتاكة والمدمرة .وفي الحياة اليومية التي أعيشها ويعيشها غيري ألمس أثر تعريف الإنسان بأنه حيوان أو كائن إجتماعي بالمطلق في سلوك البعض وتصرفاتهم الشرسة والضارية والمزعجة والإستفزازية والمتطفلة والمهينة والمؤذية، لأنهم لايخضعون عواطفهم وغرائزهم وانفعالاتهم وحاجاتهم المادية للعقل والإرادة الفرديين والإيمان الحقيقي، ويترك الأمر لوصاية الجماعة أو المجتمع والسلطات والنافذين الذين لايتشددون إلا في مايخدم مصالحهم ونفوذهم، ويهتمون بالمظاهر والقشور، ويغضون النظر عن سلوك هؤلاء التابعين لهم أو الذين يدّعون بسلوكهم وتصرفاتهم أنهم ناقمون على وصاية الجماعة أو المجتمع والسلطات والنافذين عليهم!!!
أسامة إسماعيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى