التحقيقات

مشايخ طرابلس يستعرضون واقعها: الفلتان ظاهرة فردية كتب: غسان ريفي – السفير

في أحد اللقاءات الدورية التي تعقد بين المشايخ في طرابلس، طلب بعض المشاركين وضع مقاربة واقعية للأحداث المتلاحقة التي تشهدها المدينة، وللاتهامات الكثيرة التي تساق ضدها وأبرزها التطرف والإرهاب، وذلك من أجل الخروج بصيغة مشتركة يمكن أن تساهم في حماية عاصمة الشمال من الكأس الأمني المرّ الذي يلوح في أفقها.
بعد نقاشات مستفيضة، واستعراض العديد من المحطات الأمنية عبر التاريخ البعيد والحديث، وجد المجتمعون أن هناك محاولات مستمرة منذ عقود تهدف الى أن تكون طرابلس حاضنة للمشاريع المشبوهة التي تجعلها خارج المناخ اللبناني العام، وتعطي الدولة ومؤسساتها المبررات للاستمرار في إهمالها، وحرمانها من أبسط حقوقها.
ورأى المشايخ أن هذه المحاولات باءت وما تزال تبوء بالفشل، من «إمارة التوحيد» التي لفظتها المدينة في الثمانينيات من القرن الماضي، مروراً بأحداث الضنية عشية العام 2000، فمعارك تنظيم «فتح الاسلام» في طرابلس ومخيم نهر البارد في العام 2007، الى جولات العنف العشرين بين التبانة والقبة وجبل محسن من العام 2008 الى العام 2014، وصولاً الى الفوضى الحالية التي تتسبب فيها عودة المربعات الأمنية الى التبانة، وظهور مجموعات مسلحة جديدة تحمل فكراً متطرفاً.
وأكدت النقاشات أن من يقف خلف كل هذه الأحداث من تيارات سياسية أو دينية أو أجهزة أمنية مختلفة، لم ينجح في تعميم حالة الفلتان أو التطرف والتي بقيت محصورة في أحياء محددة، واقتصرت على حالات وظواهر فردية لا تتعدى العشرات أو بضع مئات من الشبان المتحمّسين لفكرة هنا أو لشعار هناك، في مدينة تضم أكثر من 600 ألف نسمة من مختلف الطوائف والمذاهب.
وركزت نقاشات المشايخ على الشائعات التي تتحدث عن وجود مجموعات موالية لـ«جبهة النصرة» أو تنظيم «داعش» في طرابلس، فكان تأكيد على أنه إذا كان تصنيف الموالي لـ«النصرة» أو «داعش» على أساس معارضته للنظام السوري، فإن هؤلاء ليسوا موجودين في طرابلس فقط، بل في كل المدن العربية والبلدان الأجنبية أيضاً، أما إذا كان القصد هو التكفير والذبح، فإن طرابلس كانت أول من واجه أعمال الذبح على الهوية وغير الهوية في الحرب اللبنانية، كما أن الفكر الارهابي أو السلوك المشين لا يمكن أن تتقبّله طرابلس ولا أي مدينة مسلمة في العالم، «لأننا كمسلمين لا يجوز أن نقتل المخالف لنا، وأي أعمال قتل من هذا النوع تكون من الكبائر التي نهت الشريعة الإسلامية عنها. وقد أثبتت طرابلس على مر التاريخ رفضها المطلق لأي تنظيم مسلح يحمّل المدينة بكاملها وزر تصرفاته، كذلك فإن المدينة عموماً لا ولم ولن تتبنى مقاتلين تكون انطلاقتهم منها باتجاه أي مكان في الأرض.
وعرض المشايخ للعلاقة التي تربط طرابلس بالمؤسسة العسكرية، وأكدوا أن قيام بعض الموتورين أو المأجورين باستهداف مواقع للجيش في المدينة، لا يعني أن ثمة عداوة بين المدينة والجيش، بل على العكس فإن عاصمة الشمال تحتضن الجيش وهي تشكل خزاناً كبيراً له.
وخلصت نقاشات المشايخ الى أن طرابلس لم تكن في تاريخها تشكل بيئة حاضنة للتطرف والارهاب، وأن ما شهدته وتشهده من معارك مفتعلة وإشكالات أمنية لا يمكن وضعها إلا في إطار الحالات والظواهر الفردية، وفي محاولة بعض الجهات الاستفادة من الأزمات المعيشية والاجتماعية المزمنة لاستغلال أبنائها في تنفيذ أجندات خاصة تؤدي الى تحويل مناطقها الفقيرة الى صندوق بريد لتبادل الرسائل سياسياً وأمنياً.
ويرى شيخ قراء طرابلس وإمام مسجد «السلام» الشيخ بلال بارودي أن طرابلس تتعرّض لخطة تشويه ممنهجة، فيما الدولة تقف مكتوفة اليدين، ولا تبادر الى رفع الحرمان عن المدينة والى تنفيذ المشاريع الانتاجية الملحّة التي تؤمن فرص العمل للشباب، فيما تمعن بعض المؤسسات في التضييق على طرابلس وحرمانها من كل ما يمكن أن يساهم في انفتاحها على المناطق الأخرى.
ويقول بارودي لـ«السفير»: «نحن أبناء هذا البلد، ومصلحتنا أن نعيش ونتعاون مع المسيحيين ومع الشيعة من أهل بلدنا، ومع كل الطوائف والمذاهب الأخرى، وليس من مصلحتنا أو مصلحتهم أن يتعاطوا معنا كفئة منبوذة يتصدقون علينا بالتعاون معنا».
ويضيف «كدنا نصدق أن في طرابلس إرهاباً، بسبب الحملة المبرمجة على المدينة وأهلها، خصوصاً أن هناك تيارات سياسية وأجهزة أمنية تحلم بأن تثبت للقاصي والداني أن ثمة إمارة في طرابلس، ونحن نؤكد أن مدينتنا مؤمنة وملتزمة ومتنوعة ووادعة، تحب الضيف، وترحب بالغريب. واليوم عندما فشل الجميع في إيجاد إمارة في طرابلس عموماً، بدأ التركيز على التبانة من خلال وجود بعض المجموعات المسلحة فيها، علماً أن مثل هذه المجموعات موجودة في كل منطقة في لبنان».
ويحذر بارودي «من الظلم الذي يخيّم على تفاصيل حياة شريحة واسعة من الطرابلسيين، سواء عبر سياسة إدارة ظهر الدولة ومؤسساتها الإنمائية لهم، أو عبر معضلة الموقوفين الإسلاميين المخطوفين منذ سبع سنوات ولم يجر تحريرهم حتى الآن»، لافتاً الانتباه الى أن «وجود رايات في بعض الشوارع ليس دليلاً على وجود داعش أو النصره في طرابلس، وأن اقتلاع هذه الرايات لا يعني اقتلاع من يمكن أن يحمل هذا الفكر، لكن الاستمرار في الظلم والتهميش سوف يؤدي الى ظهور رايات جديدة لا نعرفها، وقد يؤدي أيضاً الى ردات فعل جنونية».
ويطرح بارودي سلسلة حلول سريعة يمكن أن تساهم في حماية طرابلس أبرزها:
أولاً، قيام دار الفتوى بدورها في تفعيل مساجدها وتقوية علمائها ودعاتها، ومعالجة الثغرات الكبيرة التي حصلت بسبب غيابها عن قيادة الساحة وانشغالها بالسياسة، وهناك آمال كبيرة معلقة على المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان في إعادة بناء الثقة المهترئة ما بين الجسم الديني والجسم المدني.
ثانياً، أن تتحمّل الدولة مسؤوليتها تجاه طرابلس وأن تؤكد أنها على الخريطة اللبنانية، من خلال تفعيل القضايا الإنمائية والاقتصادية والشبابية واحتضان الناس، ومعالجة أسباب الغلو، وإيجاد حواضن مضادة لها.
ثالثاً، وقف الحرب الاعلامية على طرابلس والتشويه الممنهج.
رابعاً، قيام القيادات السياسية بالدور الحقيقي المنوط بها. فقد ملّ الناس من البيانات المتكررة، وهم يحتاجون الى من يعالج أوجاعهم ومشاكلهم اليومية بشكل فعلي، وليس صحيحاً أن أزمة طرابلس اليوم تقتصر على مجموعات مسلحة في التبانة، وإذا تم القضاء عليها يحل الأمن والأمان، بل إن الأزمة تمتد من القلمون الى البداوي بفعل السياسات المتبعة من قبل الدولة مع عاصمة الشمال.
ويحذر بارودي من «عسكرة» طرابلس، أو التعاطي الأمني الصرف مع بعض الظواهر، مذكراً أن الخطة الأمنية سارت من دون ضربة كفّ، وأعطت الطمأنينة لكل أبناء المدينة، مؤكداً أنه لا يوجد أعداء للجيش اللبناني في طرابلس، «ولكن ما نخشاه هو أن يُصار الى زرع العداوة في المؤسسة العسكرية تجاه الفيحاء من خلال الدس المستمر لتيار سياسي سيئ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى