المقالات

بقلم :الدكتور امل مبروك عبد الحليم أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة كلية الآداب – جامعة عين شمس

حظيت قضايا الخطاب والتواصل على اهتمام العديد من المفكرين في الآونة الأخيرة، ومن بين هذه القضايا “الصمت” بوصفه نسقًا خفيًا في الخطاب يساهم في دفع حركته ويوجَه الدلالة في العملية التواصلية. وللصمت أبعاد ودلالات في الخطاب تحضر حين يعجز “اللسان” أو “السارد” أو “الواصف” عن توصيل المعني أو حين تتعطل لغة الكلام؛ وهو عنوان “البلاغة” حين يكثر اللغو، وهو سبيل الإقناع حين تفشل مستويات اللغة عن التأسيس. ومن ثَم أصبح “الصمت” عنصرًا فاعًلا ومعطى ونسقًا حاضرًا في كل خطاب، كما أوضح ذلك الباحث التونسي “يوسف رحايمي” في تحليله لمفهوم “الصمت” في الخطاب اللغوي.
ويُعّدُ “الصمت” ظاهرة غنية ومعقدة، وربما كانت بعض جوانبها واضحة ومعروفة، لكن بعض جوانبها الأخرى خافية ولا يمكن اكتشافها إلا من خلال بحث متعمق. ومن التعريفات الشهيرة للصمت أنه: “السكوت والامتناع عن الكلام”، أو “إمساك اللسان” بمعنى أن “الصمت عزوف عن الكلام ورغبة جامحة في السكوت”؛ أو هو “ترك الكلام مع القدرة عليه” على حد قول الجرجاني. غير أن هذا التعريف لا يسعفنا في استجلاء ماهية “الصمت” ولا يقف عند كنهه، فنحن لا نعلم من الصامت إلا صمته، ولسنا على يقين أنه صمت بلاغة أم عجز عن التعبير. لذلك، فالصمت ظاهرة زئبقية متلونة لا نكاد نعثر عن خيط ناظم ينسجها، فهي بلاغة وبراعة من ناحية، وضعف وعجز من ناحية أخرى. “الصمت” هو الرضا والتعقل والحكمة تارة، وهو الركون والانصياع والتسليم تارة أخرى.
والواقع أن المعنى الشائع عن “الصمت” الذي يجعله مجرد مرادف للامتناع عن الكلام – أعني نشاطًا سلبيًا خالصًا ينعدم فيه كل اتصال – يعني أن الصمت هو توقف عن الاتصال بين الناس، بمعنى أن يكون الكلام هو وحده وسيلة الاتصال بين شخص وآخر أو مجموعة من الآخرين. وهذا المفهوم السابق لا يعبر إلا عن نظرة سطحية للصمت، ذلك لأن “الصمت” هو أحد المكونات المختلفة للاتصال، وهو ليس مجرد شيء سلبي، أو مجرد غياب للكلام، بل هو نشاط إيجابي. وقد عبر عن هذا المعنى “ماكس بيكارد” الكاتب والفيلسوف السويسري في كتابه “عالم الصمت” بقوله: “لا يستطيع المرء أن يتصور عالمًا ليس فيه شيء سوى اللغة والكلام، لكن يستطيع المرء أن يتخيل عالمًا حيثما لا يكون هناك شيء إلا الصمت”. و”يحتوي الصمت كل شيء في ذاته، إنه لا ينتظر أي شيء؛ إنه حاضر دائمًا وبصورة كلية في ذاته ويملأ تمامًا الحيز الذي يظهر فيه”. “لا يكون الصمت مرئيًا، ومع ذلك فوجوده واضح بجلاء إنه يمتد إلى أبعد المسافات، مع أنه قريب جدًا لنا بحيث نحسه بصورة ملموسة كما نتحسس أجسادنا؛ إنه غير محسوس مع أننا نشعر به مباشرة”.
وإذا كان “الصمت” يظهر أحيانًا مقترنًا ببعض الأعمال البشرية التي تنتج الأصوات: كالصياح أو الصراخ، أو الكلام أو الحديث أو الموسيقي، كما صرح بذلك الدكتور/ إمام عبد الفتاح في مقاله: “فلسفة الصمت”، فإن البحث الدقيق يكشف لنا أن “الصمت” يظهر أيضًا مقترنًا بإنجازات بشرية ليس فيها أصوات كما هي الحال في كثير من الفنون التي تستخدم الإيماءات والإشارات والحركات المنظمة، أكثر من استخدامها للأصوات مثل: “فن المحاكاة” أو التقليد؛ كذلك نجد أن القراءة الخاصة تنطوي على “الصمت”، وأيضًا كثير من الفنون الحديثة كالرسم أو التصوير والنحت وغيرها.
إذن ينتمي “الصمت” إلى النشاط الواعي المرتبط بالإنسان والعالم الذي يسكنه، فهو قوة ومبدأ أنطولوجي يدخل في نسيج التجربة البشرية كما عبر عن ذلك الفيلسوف الوجودي “جان بول سارتر” من خلال كتابه “جمهورية الصمت” الذي أصدره عام 1947 في الولايات المتحدة. وقد تحدث – في هذا الكتاب – عن العمل السري أثناء أهوال الحروب العبثية التي أفقدت العالم خمسين مليونًا من البشر، حيث قال: “لقد فقدنا – أثناء هذه الحروب المدمرة للبشرية – حقوقنا وأهمها حقنا في الحرية والتعبير عن الرأي، وكنا نتلقى الإهانات علنًا وكان لزامًا أن نبقى صامتين… وكنا نرى على الجدران وفي الصحف صورة كريهة لا معنى لها لا تمت لواقعنا بصلة، لكن سلطات القهر تريد منا أن نصدقها… وبسبب كل هذا كنا أحرارًا أكثر من أي وقت مضى… هكذا بالدم والدموع تشكلت جمهورية هي الأقوى من بين سائر الجمهوريات هي جمهورية “الصمت”. وقد تمكن فيلسوف الوجودية – من خلال جمهورية “الصمت” – أن يختار ذاته بحرية، وحين يختار الإنسان ذاته باختيار حريته فقد اختار الحقيقة كل الحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى