كي لا ننسى

عملية فردان التي قادها المجرم باراك في بيروت

والتي ادت الى استشهاد القادة الثلاث كمال عدوان – كمال ناصر – ابو يوسف النجار

في ظل عصر التطبيع والمفاوضات مع العدو الاسرائيلي ومواقف الاستسلام والتخاذل كان لابد من التذكير بجرائم الصهاينة الاسرائيليين, وسوف نذكر منها في هذا العدد عملية فردان الاجرامية التي قادها المجرم باراك بنفسه في قلب العاصمة بيروت الصامدة والتي ادت الى استشهاد القادة الثلاث كمال عدوان – كمال ناصر – يوسف النجار
قائمة الموت
لقد حققت عمليات أيلول الأسود شهرة واسعة، وبدأت تجني ثمار أهدافها بانتباه العالم للقضية الفلسطينية، وكسب تعاطف العديد من المنظمات اليسارية العالمية فاندفع شباب من كل الجنسيات للعمل ضد إسرائيل منبهرين بعمليات أيلول الأسود، مؤمنين بحق الفلسطينيين في أرضهم.
أما في إسرائيل، فقد كان لا بد من إيجاد حل. وفي المبنى الرئيسي للموساد في شارع »شاؤل« أصدر زيفي زامير رئيس الجهاز قرارًا بتعيين مايك هاراري مسؤولاً عن فرق القتل. فشرع من فوره في جمع قائمة تضم زعماء أيلول الأسود الذين كانوا وراء عملية ميونيخ. حيث كان بعضهم لا يزال في أوروبا في وظائف ظاهرية، وبقيتهم في بيروت. وشملت قائمة الموت كل من:
–    صلاح خلف- أبو إياد- ساعد عرفات وقائد عام أيلول الأسود والمؤسس الأول.
–    كمال عدوان- عضو هيئة الأركان. ومسؤول العمليات داخل الأرض المحتلة.
–    يوسف النجار- أبو يوسف- رئيس المنظمة وأبرز زعماءها، والمسؤول العسكري عن الأنشطة السرية.
–    علي حسن سلامة- رئيس العمليات، والعقل المنفذ، ورئيس جناح »الرصد« في منظمة التحرير »المخابرات«.
–    كمال ناصر- المتحدث الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
– فخري العمري- أحد ضباط العمليات وعضو هيئة الأركان.
– محمد داود عودة- ضابط بالعمليات، تدرب بالقاهرة مع سلامة والعمري، ويتولى المركز القيادي لتنسيق العمليات الدولية.
– وائل عادل زعيتر- منسق الاتصالات الخارجية.
– عبد الواحد زعيتر- المساعد الأول لعلي حسن سلامة، والمقيم بإيطاليا منذ 1956.
–    محمد بو ضياء- مخرج مسرحي جزائري بباريس- منسق العلاقات الخارجية مع المنظمات اليسارية.
– غازي الحسيني- عضو هيئة الأركان.
– الدكتور باسل رؤوف القبيصي- المسؤول عن تهريب الأسلحة وتخزينها في أوروبا.
– هايل عبد الحميد- أبو الهول- رئيس أمن منظمة »فتح«.
– أبطال ميونيخ الثلاثة الناجين والمختبئين في بيروت.
وبدأت المطاردة الشرسة من فرق الموت برئاسة مايك هاراري- الثعلب العجوز. وتناوبت الاغتيالات هنا وهناك بين رجال أيلول الأسود والموساد.
شكر هاراري فريق عمل كامل ضم نخبة من رجال ونساء الموساد لاقتفاء أثر أفراد القائمة، وجمع أكبر قدر من المعلومات عنهم، وأمكن له تصفيتهم جميعًا ما عدا العمري ومحمد داود عودة وأبطال ميونيخ الناجين وأبو الهول. مستخدمًا شتى أساليب الاغتيال من مسدسات برتا عيار 5.22 مم، ورشاشات UZI، وتفجير في السيارات، وقنابل مزروعة بغرف النوم، والقتل بوساطة التليفون اللاسلكي، وبواسطة الريموت كونترول أحدث ما ابتكرته الوحشية الإسرائيلية من طرق الاغتيال عن بعد. هؤلاء الشهداء جند لهم هاراري أشرس فرق الاغتيال التي تتبع قسم الاستطلاع- سايريت ماتكال Sayeret Mathekal- ويعرف أيضًا باسم »وحدة الكوماندوز العليا«.
حملت عملية »فردان« التي راح ضحيتها كمال ناصر، وكمال عدوان ويوسف النجار في بيروت، اسم أفيف نعوريم »ربيع الشباب« وقاد الفريق إيهود باراك.
كيف اغتالوا الثلاثة في وقت واحد على مسافة أمتار من مسكن عرفات… وإذا كانوا قد راقبوا شقق هؤلاء الثلاثة كيف لم يتوصلوا لعرفات…؟
كان مايك هاراري قد وضع الخطوط الرئيسية للعملية، وتتلخص في الاستعانة بالعملاء المحليين ببيروت للتأكد من عناوين رفاق عرفات الأربعة.
ولما كان من المستحيل لعنوان ثابت للأمير الأحمر علي حسن سلامة- لأنه لم يكن ليقضي ليلتين متتاليتين بمكان واحد- فقد استبعد مؤقتًا حتى الانتهاء من إعدام رفاقه الثلاثة، الذين أكدت التحريات أنهم يقيمون بعمارة واحدة بشارع الفردان مؤلفة من سبعة طوابق. كما عدوان بالطابق الثاني، وكمال ناصر بالثالث، ويوسف النجار بالسادس.
وبعدما تأكد هاراري من إقامتهم بمنزل واحد، أرسل بستة جواسيس من الموساد بغرض المساعدة الداخلية الضرورية جدًا لنجاح التنفيذ. والتعرف على شوارع بيروت- خاصة- منطقة برج الحمام التي يقع بها شارع الفردان، كذلك دراسة أفضل الطرق للانسحاب، واستئجار ستة سيارات قوية، جديدة.
هؤلاء الستة كانوا يحملون جوازات سفر مزورة بجنسيات مختلفة، بلجيكيان، وألماني وثلاثة إنجليز أسماؤهم على التوالي: شارل بوساد، وجلبرت ريمبادو، وبيتر أتاندر، وأندرو وتيشيللو، وأندرو تيسلاو ماكي، وجورج إدلر. تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والسبعة والثلاثين. وفدوا إلى بيروت بداية من 3 أبريل 1973، فنزل بعضهم بفندق »ساندس« والبعض الآخر بفندق »أطلانتيك« الواقع على شاطئ البياضة، وتصرفوا كأن أحدهم لا يعرف الآخر.
لقد جابوا منطقة »العملية« سيرًا على الأقدام عدة مرات في جولات استطلاعية.
ومروا بشارع الخرطوم أمام مكاتب الجبهة لتحرير فلسطين الديمقراطية الفلسطينية.
ولاحظ الجواسيس المحترفين أن ملعبًا رياضيًا يقع بالشارع- هذا الملعب استثمر بعد ذلك استثمارًا جيدًا لإنجاح مهمتهم الإجرامية. فمن خلال ترددهم على الملعب وجلوسهم على مدرجاته استطاعوا أن يعرفوا كل شيء عن الحراسات الأمنية، ومواعيد تغييرها، وعدد أفرادها إضافة إلى تسليحهم ونوبات المرور عليهم.
كل تلك المعلومات نقلت إلى الموساد بواسطة جهازي لاسلكي لإتمام وضع الخطة المحكمة وتخير ساعة الصفر. أما عن السيارات- فقد انتقوا سيارات أمريكية جديدة استأجروها من وكالتي أفيس، وليناكار بعد دفع ثلاثمائة كتأمين لكل سيارة، قادوا السيارات بشوارع بيروت ليلاً ونهارًا يرصدون ويراقبون ويحللون، فهم ستة من أكفأ جواسيس الموساد المحترفين، على عاتقهم تقع مسؤولية نجاح العملية كلها أو فشلها.
في تلك الفترة من السبعينات- كانت بيروت تعيش أزهى عصورها كمدينة مفتوحة، متحررة، أطلق عليها لقب »باريس الشرق« تضم السواح من كل أنحاء العالم.
لم يكن للأمن وقتها وجود يذكر، فالأمن مجن لراحة السواح الضيوف، حيث اقتصاد البلد متوقف على ما ينفقه هؤلاء الزوار في البارات والأسواق والفنادق. وكان للغياب الأمني دورًا مهمًا لكي يرتع عملاء الموساد، وتنفذ عملية »فردان« بنجاح.

ربيع الشباب
كانت الترتيبات الأمنية والاستخباراتية في إسرائيل تسير بأسرع ما يمكن، وحدث تعاون وثيق بين الموساد والمخابرات العسكرية »أمان« فالموساد تجمع المعلومات، و »أمان« تخطط لتقوم وحدة »السايريت« Sayeret المؤلفة من كل قطاعات الجيش بالتنفيذ.
هكذا تحرك الجبن الإسرائيلي في أسطول بحري مسلح بأحدث ما لديه من أسلحة في محاولة لنسف وحش الهلع المتربص بهم، والذي يطلقه رجال أيلول الأسود بين آونة وأخرى.
العملية تحددت لها ساعة الصفر عند منتصف الليل تمامًا في يوم الإثنين التاسع من أبريل 1973، ونتيجة لمدى تخوفهم وتخبطهم ألغى الهدف الخامس في اللحظات الأخيرة جدًا، ألا وهو نسف مخزن الأخيرة شمالي صيدا، إذ تخوف العدو من توزيع قواته ما بين بيروت وصيدا مما يضعف مقاومتها ويعرضها لمأساة محتملة.
لكن، تم التركيز على هدف آخر مطلوب تصفيته وبأي ثمن، مهما كانت التضحيات. إنه الوحش العربي الفدائي الأسطورة علي حسن سلامة- رئيس العمليات بأيلول الأسود.
فالبرغم من ورود أخبار جديدة تؤكد عدم تواجده ببيروت في تلك الليلة- إلا أن صورًا تقريبية له- وكذا صور زملائه الثلاثة- وزعت على جميع أفراد فريقي القتل والنسف، على أمل أن يصادفه أحدهم فيقتله، وتكون مكافأته نصل مليون دولار.
ولم لا؟؟؟ فهو »الأمير الأحمر« الذي زلزل إسرائيل في الداخل وفي الخارج وتسبب في كشف وإعدام أكثر من عشرين جاسوسًا للموساد بين صفوف المقاومة، وأربك كل النظم الأمنية الإسرائيلية ضاربًا في كل موضع، مما أثلج صدر عرفات، وشجع المنظمات اليسارية في اليابان وألمانيا وإنجلترا على التعاطف معه، والقيام بعمليات فدائية ضد إسرائيل هزت العقول، وأذهلت العالم، لذلك أطلقوا عليه في الموساد لقب »الأمير« لصلته الوثيقة بعرفات و »الأحمر« لكثر دماء اليهود القتلى على يديه.
وإلى جانب أهداف العملية- كانت هناك أوامر صارمة ومشددة للغاية أصدرتها القيادة العليا وهي:
• قتل الزعماء الثلاثة قتلاً أكيدًا.
• عدم ترك قتلى أو جرحى من أفراد الفرق في ساحة العمليات تحت أقسى الظروف.
• جمع كل ما يوجد من أوراق وملفات لدى الزعماء الثلاثة وملأ حقائب الأسلحة بها. وهنا يثور السؤال:
لكن…- لماذا الإصرار على تصفيتهم بدلاً من خطفهم إلى إسرائيل للاستفادة مما لديهم من أسرار؟
وللإجابة نقول: إن كل التقارير والملابسات أشارت إلى أن عملية الخطف لو تمت لنجحت أكيدًا لعامل المفاجأة المذهلة الذي واكب ظروف العملية وتوقيتها. لكن جولدا مائير- وجميع أعضاء رجال أجهزة استخباراتها- كانت لديهم رغبة مجنونة لقتلهم ثأر لمذبحة ميونيخ، إظهارًا للقوة الإسرائيلية، لإرهاب قادة المنظمات الفلسطينية الأخرى حتى يدركوا أن عملية »فردان« رسالة موجهة بأن الانتقام سيطول الجميع في أي مكان.
الأهم من ذلك كله- أن يرى علي حسن سلامة بنفسه صورة واقعية لنهايته المؤكدة على حياته عن استغراقه في العمل، فيتخبط، ويتوتر،ويقفد تركيزه.
حينئذ… يخرج من مخبأه فيتصيدوه منهارًا، خائرًا.
وتلك قصة أخرى مثيرة، صاخبة!!
في التاسعة مساء 9 أبريل- رست القوة البحرية الإسرائيلية في عرض البحر مقابل مدينة بيروت بانتظار لحظة الصفر وإشارة الأمان من الجواسيس الستة، إذ كانوا ينتظرون بسيارتهم على الشاطئ، بيد أحدهم كشاف قوي، بالضغط أربعة مرات على زر الإضاءة به- تبدأ على الفور عملية فردان، حيث يقود »باراك« فريق القتل المكون من عشرين رجلاً، ويقود »أمنون ليبكين« فريق النسف، ينسق معهما »مايك هاراري« ويتابع أولاً بأول داخل غرفة العمليات بعرض البحر.
كان رجال باراك يرتدون الملابس المدنية والملابس الرياضية الفضفاضة، أما هو، فكان يرتدي ملابس نسائية خليعة وباروكة صفراء، وجهه ملطخ بالمساحيق الصارخة، بينما كان صدره نافرًا بثديين صناعيين. ولأنه وسيم جدًا وناعم الوجه والنظرات- بدا بالفعل كأنه امرأة داعرة تتسكع لاصطياد زبائنها، شهود عيان قالوا فيم بعد إنه ذو جمال يخطف الأرواح والقلوب، ويفتح شهية الرجال للغزل«.
في العاشرة إلا ربعًا تناول ايهود باراك ورجاله وجبة عشاء سريعة مكونة من أطباق وشرائح السمك الطازج.
وفي العاشرة ونصف بدأ في توزيع الأدوار:
12 رجلاً مهمة كل منهم اقتحام شقة أحد الثلاثة المطلوب قتلهم. وإثنان لتسلق المواير للمساعدة في قتل كمال عدوان من الخلف بالطابق الثاني، والسبعة الباقين لحماية ظهورهم وقت التنفيذ والانسحاب.
أما لماذا ارتدى باراك ملابس نسائية، فذلك ما سنعرفه بعد قليل.
كانت أسلحة فريق القتل رشاشات آلية طراز UZI ومسدسات MAC -10 »الرهيب« الأمريكية ومتفجرات لنسف الأبواب المحصنة، وعددًا كبيرًا من الخزن المحشوة.
أما باراك وجندي آخر، فكان سلاحهما مسدس برتا 52.2مم صغير الحجم جدًا، تم تعديل طلقاته الست في إسرائيل بعد أبحاث طويلة، انتهت بحشو الطلقات بأنواع من المتفجرات والمواد الناسفة لا تصدر صوتًا، للدرجة التي لا تكاد يسمع بها شخص يمر بجوار القتيل.
وفي الساعة الحادية عشرة ونصف، صعد أفراد فريقي القتل والنسف إلى السطح، يحملون أسلحتهم وحقائب المتفجرات التي ستملأ بالمستندات، وأربعة صور لأربعة حكم عليهم بالإعدام رميًا بالرصاص. ووقف أفراد الطاقم استعدادًا لإنزال اللنشات السريعة فور صدور الأمر بذلك.
لقد وضعت الخطة الإرهابية بإحكام بعد دراسة مستفيضة شملت شتى الاحتمالات أثناء عملية التنفيذ، وتحددت الأدوار أيضًا لتشمل أدق التفاصيل منذ لحظة الإنزال على الشاطئ. ثلاث سيارات لكل فريق. بكل سيارة سبعة أفراد بينهم من يجيد العربية بطلاقة، وبجيبه آلاف الليرات تحسبًا لأي طارئ.
هكذا تسمرت عشرات الأعين باتجاه بيروت، تنتظر إشارات الجواسيس على الشاطئ، لتبدأ على الفور عملية »فردان«.

مملكة الوحي
كانت المصادفة عجيبة بحق، تلك التي أسفرت عن الموافقة على اجتماع اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت يومي 9 و 10 أبريل بدلاً من دمشق.
كان الزعماء الثلاثة- كمال عدوان، ويوسف النجار، وكمال ناصر- أعضاء اللجنة قد أنهوا محادثات اليوم الأول، وعادوا في التاسعة مساء إلى مسكنهم الذي يقع في بناية واحدة بشارع فردان.
كان كمال عدوان يقيم بالطابق الثاني مع زوجته وأولاده الأربعة الصغار، وبالشقة المقابلة له تسكن عجوز إيطالية عمرها فوق السبعين، تمتلك محلاً للعطور ببيروت. تناول عدوان عشاءه وأغلق عليه باب ليكتب تقريرًا هامًا ينوي عرضه في اجتماع اليوم التالي.
أما كمال ناصر- فيقيم بالطابق الثالث بمفرده.
كما كمال ناصر حزينًا أيضًا لوفاة رفيقه وصديقه الشاعرة »عيسى نخلة«، لذلك، فضل أن يجلس إلى مكتبه ليكتب قصيدة رثاء سوف يلقيها في حفل تأبينه.
لقد علق صورته في برواز ذو شريط أسود بجوار برواز آخر يصور السيدة مريم تحمل وليدها عيسى عليه السلام، ومن خلفه خريطة لفلسطين تشغل مساحة الجدار.
لكن يوسف النجار- أبو يوسف- فقد كانت شقته بالطابق السادس، تقيم معه زوجته وأولاده الخمسة، عاد من اجتماعات اللجنة المركزية منهكًا. فدلف إلى سريره ينشد بعض الراحة، بينما انكب على دروسه ابنه يوسف البالغ من العمر ستة عشر عامًا، ومن حوله اثنان من أخوته وأمه.
كان الزعماء الثلاثة يحتفظون إلى جانب مدافع الكلاشينكوف بمسدسات أوتوماتيكية محشوة، ويؤمنون أبواب شققهم بأجهزة إنذار تعمل فوريًا إذا ما عبث أحد بـ »الكولون« من الخارج، وعلى مدخل العمارة يقف حارسان مسلحان بالكلاشينكوف سريع الطلقات.
على مقربة من مسكنهما كان يقيم ياسر عرفات ومساعدة الأول صلاح خلف، وعلى بعد خطوات معدودة- في منزل مقابل لمبنى الجبهة الشعبية، نزل الفدائيون الثلاثة الذين نجوا من مذبحة ميونيخ، والمطلوب إعدامهم ضمن أفراد قائمة الموت.
وبالصدفة البحتة- مساء 9 أبريل- كان صلاح خلف يجلس بينهم ليستمع إلى سيمفونية ميونيخ الرائعة.
كانت معلومات الموساد عنهم قاصرة تمامًا. فمقر إقامتهم سري للغاية ولا يعلم به إلا القادة الكبار فقط تحسبًا »للعيون« التي تبحث عنهم، وتتلقط أخبارهم.
وفي منتصف الليل تمامًا كان كمال عدوان لا يزال يكتب بغرفة مكتبة، بينما يستحث كمال ناصر ملكة الوحي لينظم أبيات الرثاء، أما يوسف النجار فقط استغرق في نوم عميق.
لكن الهدوء الشديد في منازل الزعماء الثلاثة، كان يقابله ضجيج وعمل في عرض البحر، وخوف في تل أبيب..!!

الإعدام
على شاطئ البياضة ومغارة الحمام أرسل جواسيس الموساد إشارات الأمان الأربعة وفي الحال أنزلت عشر لنشات مطاطية قفز إليها أفراد الفريقين في سرعة، فانطلقت طائرة على سطح الماء إلى بيروت، وبعد سبع دقائق حدث تبادل أخير بالإشارات الضوئية، غادر على إثره الجواسيس الستة مواقعهم إلى السيارات، وجلس كل منهم إلى مقود سيارته بعدما فتح الأبواب وشغل الموتور وأطفأ الأنوار.
دقائق، ووصلت اللنشات إلى الشاطئ، قفز منها رجال كالأشباح، ركضوا في حذر إلى السيارات يحملون حقائب المتفجرات، ويخفون مدافعهم تحت ملابسهم الفضفاضة.
وفي نهاية شارع غانا- انفصل الفريقان. فاتجه فريق القتل بقيادة باراك إلى شارع فردان، واتجه فريق النسف إلى شارع الخرطوم المجاور بقيادة أمنون ليبكين شاحاك، حيث مبنى الجبهة الديمقرطية، وتسللوا وسط الظلام إلى الملعب الرياضي لترقب اللحظة الملائمة للهجوم.
قبل المبنى »الهدف« بنحو ست عمارات توقفت سيارات الفريق، كانت الموسيقى الصاخبة تنبعث من صالة »جولدن روم« في فندق بريستول المقابل.
ترجل باراك وهو بكامل أناقته كامرأة فاتنة، وتأبط ذراع رفيقه »هوكي بوتزر« الذي يجيد العربية، ومشيا باتجاه البيت يخفيان »البرتا« تحت ثيابهما. أمام الباب كان هناك حارسان يحملان الكلاشينكوف تقدم باراك من أحدهما في بشاشة وسأله بالإنكليزية:
– هل معك ثقاب من فضلك؟
مبتسمًا للفتاة الجميلة المثيرة التي تلوك اللبان في ميوعة:
–    نعم..
أخرج الجندي ولاعته.
وبينما يشعل لها السيجارة أخرجا مسدسيهما وأطلقا رصاصتين بلا صوت فقتل الحارسان في الحال.
»سوري سولدرز«
قالها باراك لحظة سقوطهما إلى الأرض.
كان الفريق يرقب الأمر في قلق وتوتر شديدين. وفي الحال غادر الرجال سياراتهم في هدوء بينما جذب باراك وزميله الجثتان إلى بئر السلم حيث اجتمعوا جميعًا، خلع باراك باروكته وبدأ في إلقاء الأوامر.
أربعة لكل شقة، واثنان إلى المنور لتسلق المواسير، ثلاث دقائق بالتمام ويحدث الاقتحام للشقق الثلاث في وقت واحد. أسرع الرجال الذين ينتعلون أحذية الكاوتشكوك بالصعود وقد ارتدوا على رؤوسهم جوارب نسائية كرجال العصابات حينما يقتحمون البنوك، فزرعوا المتفجرات أمام الأبواب المحكمة وانزووا بعيدًا، وبعد خمسون ثانية دوت ثلاث انفجارات ارتجت لها جدران البيت، وبدأ لحظة الإعدام.

شهيدة الفدا
في الطابق الثاني كان كمال عدوان منهمكًا في الكتابة عندما سمع ما يشبه »الخربشة« بباب شقته الخارجي. فأسرع إلى غرفة نومه ليجيء بالكلاشينكوف سألته زوجته في خوف عما يجري، فأجابها »لا تقلقي« وما إن خطا إلى الممر المؤدي إلى الصالة حتى دوى الانفجار، واقتحم الكوماندوز الأربعة الباب ليجدوه قد سقط أرضًا بعدما ضربه من الخلف رجلي الكوماندور اللذان تسلقا مواسير الصرف الصحي.
برغم ذلك، أطلقوا عليه أكثر من ستين طلقة مدفع هشمت رأسه تمامًا وفصلتها عن جسده على مرأى من زوجته وأطفاله الصغار. ارتمت الزوجة الثكلى تحتضن أشلاء زوجها وهي تئن. حاول القتلة أن يبعدوها فتشبثت بذراع القتيل، لكن صراخ أطفالهم جعلها تسرع إليهم وتضمهم إلى صدرها، تشاركهم الفاجعة القاسية.
كان ثلاث من القتلة في تلك اللحظات يملأون الحقائب بالملفات والأوراق التي بالمكتب، ثم فتشوا بقية غرف الشقة بحثًا عن أوراق أخرى، وحملوا المدفع الكلاشينكوف وخرجوا.
كانت العجوز الإيطالية التي تقيم بالشقة المقابلة نائمة لحظة الانفجار، فاستيقظت مذعورة وفتحت باب شقتها تستطلع الأمر لكن الدخان الشديد واجهها، فأغلقت الباب على الفور وهي تصيح بالإيطالية، فوجه أحد القتلة مدفعه ناحية الباب وخرجت دمغة الرصاص صرعت المرأة خلف الباب، وحينما غادر الإرهابيون الأربعة الشقة كان إيهود باراك يقف بالقرب من بئر السلم يحمل مسدسه الصغير، وتتنفض عضلات وجهه توترًا، (بينما ثلاثة من رفاقه في فريق الحماية يطلقون الرصاص على رجال المقاومة الذين حاصروا المكان).
كان هناك ثلاثة من الإسرائيليين يفترشون أسفلت الشارع، حاول أحدهم- وهو الملازم أول »أبيادوع شور الزحف باتجاه زملائه لكن رصاصات المقاومة غربلته فانتفض جسده ثم همد. أما رفيقه ويدعى جاجاي فكان يصرخ في هلع ممسكًا ركبته وفخذه، ولما حاول أن يحذو حذو أبيادوع رقد مكانه إلى الأبد، بينما تمكن الجندي المصاب »يفنال لابين« من تمثيل دور الميت فأنقذ بذلك عمره من الهلاك.
والآن، لنرجع إلى الوراء عدة دقائق فقط لنرى ماذا فعل القتلة في الطابقين الثالث والسادس. كان كمال ناصر ما يزال غارقًا في بحور الشعر، يستنطق الوحي هائمًا في عالم بعيد من الذكريات، فصديقه الشاعر الراحل عيسى نخلة ربطتهما معًا قصة كفاح طويلة، كانا لا يفترقان إلا فيما ندر. سأله ذات يوم كيف يستطيع أن يوائم بين الكفاح المستمر وكتابة الشعر. أجابه ناصر بأنه يعاني من كتابة قصيدة مثلما يعاني انتظار لحظة الصفر لعملية فدائية.
لقد وهب كمال ناصر حياته للكفاح، وتزوج القضية الفلسطينية قانعًا، سعيدًا. كانت ذكرياته وصديقه تدور بخاطره، عندما انفجر باب شقته فجأة. جرى مسرعًا لمدفعه الكلاشينكوف لكنهم كانوا أسرع منه، وأفشلوا خطته الفجائية بالالتفاف من خلفهم بأن أعدموه بثلاثين طلقة، ولأنه كان يمثل لديهم الوحش المخيف- أعادوا إطلاق الرصاص على جثته حتى تناثرت عظام صدره. ثم رسموه على الأرض بشكل الصليب. فقد كانوا يعلمون أنه مسيحي متدين. وجمعوا كل أوراقه قبلما يطلقون الرصاصات على كل أركان الشقة. وانسحبوا للحاق بزملائهم حيث تسمع طلقات الرصاص بين الجانبين.
أما في الطابق السادس، فقد كان يوسف النجار يغط في نوم عميق عندما استخدم الإرهابيون الأسانسير ونزلوا بالطابق الخامس. ثم صعدوا الدرج في هدوء وزرعوا المتفجرات بباب الشقة.
كان يوسف الصغير لا يزال يذاكر دروسه المدرسية، تجلس أمه »مها« قبالته وحولها اثنان من الصغار، عندما دوى الانفجار واقتحم الإرهابيون الأربعة الشقة يصوبون مدافعهم للجميع بعربية ركيكة سأل أحدهم الصبي:
–    أين أبوك؟
ركض يوسف مذعورًا باتجاه غرفة النوم، لكنه وقع على الأرض ففهم القتلة أن أباه بالغرفة فأمطروا بابها بوابل من النيران، واقتحموا الغرفة فلم يجدوه بها.
ففي لحظة الانفجار انتفض يوسف النجار وجرى إلى غرفة الصالون، وصاح بزوجته أن تحضر مدفعه من »الدولاب« فركضت في هستيرية لغرفة النوم لكنها تراجعت فجأة وأسرعت إلى الصالون حيث لحق بها القتلة، فألقت بنفسها أمام زوجها إلا أن طلقات الغدر اخترقت الجسدين، وسقطا معًا إلى الأرض في عناق أبدي يجسم معاني الحب والإخلاص والفداء، بل هو الوفاء بعينه.. حتى الموت.
سرق القتلة أوراق مكتبة وغادروا الشقة إلى أسفل. هكذا تمت عملية تصفية زعماء أيلول الأسود الثلاثة في منازلهم، وتحقق لجولدا مائير بذلك حلمًا طالما راودها. لكن هل توقفت بقتلهم عمليات أيلول الأسود؟
لا… فالأمير الأحمر- علي حسن سلامة- كان لا يزال حيًا، يرسم العمليات، ويخطط أشرس عملياته في عواصم العالم، وانطلق مارد آخر من مخبئه- اسمه كارلوس- تعاطف مع الفلسطينيين، فأرعبت عملياته الدول، ونشرت الذعر في أرجاء المعمورة.
من كتاب تحت عنوان: عاش مهموما.. مات مسموما.. ابو عمار ثائر اسطوري ام عميل لاسرائيل لمؤلفه فريد الفالوجي – الصادر عن دار الكتاب العربي دمشق – القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى