المقالات

ماكيت المدينة المنهارة -د. قصي الحسين

بدأ الإنهيار عشوائيا. كان يختار بلدا، لا نعرف نحن البسطاء، لماذا إختاره. لماذا وقع نظره عليه. لماذا بدأ به، ولم يبدأ بغيره. فتحت الحرب عليه كل ألسنتها النارية. وجعلت أرضه رمادا و يبابا. جعلت الناس جرحى حرب وشهداء حرب، ماتوا وعاشوا، و ما عرفوا لها أسبابا. كانت الأقاويل التي تخرج من المذياع والشاشة والصحيفة وصوت الميديا، كلها، من رحم أم واحدة: تبرر إشتعال النار، ولا تكشف عن أسبابها. وكان رجل الحرب ينتظر.

كانت النار تشتعل في قرية. في شارع. في مدينة. ثم سرعان ما تمتد ألسنتها إلى سائر الجهات. تتحوط البلاد وتجعلها مرشحة للخراب. تجعلها مدينة، مدينة منهارة.

ماكيت المدينة المنهارة اليوم، نسخة طبق الأصل عن المدن التي ضربتها الحربان.إشتعلت فيها النيران فجأة. وصارت تساقط جدارا جدارا. صارت تساقط، محلة محلة، شارعا شارعا. صارت المدينة المقتولة شاخصة، مثل “ماكيت مدينة منهارة”.

متاحف الحربين الأولى والثانية، منتشرة في شتى المدن الأوروبية التي دكتها القنابل وأكلت جدرانها وحجارتها وإسفلتها وأكلتها النيران. تحولت إلى ماكيت، تستلهم تجار الحروب المعاصرة. أولى ماكيتات الحروب التي صنعت في مطلع القرن، داخل أوروبا وأميركا، والأناضول وشرق آسيا، سرعان ما إستعيدت في منتصف القرن، وطبقت أول ما طبقت في القدس وفي فلسطين. وفي جميع المدن والقرى الفلسطينية. جعلوا منها إنموذجا، لماكيتات المدن المنهارة في الحروب القادمة.

رشحت المدن اللبنانية لتطبيقات المدن المنهارة، بعد فلسطين، وبعد حرب السويس. وبعد حرب “ال67”. فإشتعلت النيران، في مدن لبنان. وفي جميع قراه. كان مهندسو الحروب، يطبقون ماكيت المدن المنهارة، على وسط بيروت. وعلى ضواحي بيروت. وعلى البلدات المحيطة ببيروت. كانت الحرب تستدعي المحاربين من بيوتهم، لإضراب النار في بيوتهم. وفي شوارعهم وفي حاراتهم، وفي جيع قراهم. في جميع مدنهم. وفي جميع نواحي البلاد. طبقوا ماكيت الحربين، على لبنان، خلال حرب السنتين. فما تركوا رقعة، إلا وطبقوا عليها، ماكيت حرب لئيمة. ماكيت حرب أليمة.

في نهاية القرن، بادر مهندسو الحروب، لتطبيقات حرب شاملة. أتوا بماكيت الحرب العالمية الأولى. أتوا بماكيت الحرب العالمية الثانية. طبقوها في بلاد الشام. وفي بلاد العراق. وفي بلاد اليمن. وفي بلاد المغرب. أضرموا النيران فيها، واحدة تلو أخرى. جعلوا جميع مدنها، عرضة للخراب. بدت مشاهد الأسواق والحارات والقرى والمدن والعواصم، كأنها من بلاد الحربين. من بلاد مابين الحربين.

تجار الحروب ما زالوا يعيشون بيننا. يستلهمون ماكيتات الحروب. منذ قرن. وربما منذ قرنين. تراهم يضرمون النيران من جديد، كلما خمدت النيران. تراهم يجرون البلاد إلى الحروب، كلما إمتنعت بلدان عن الحرب. تراهم يستلهمون وسط برلين وباريس ولندن وروما وموسكو وبون وكولون. يستلهمون وسط طوكيو ووسط إسطنبول، ووسط هيروشيما ونكازاكي، في كل حرب أشعلوها. في كل نار أضرموها. لديهم ماكيتات جاهزة للتطبيق، في بيروت وفي دمشق وفي صنعاء وفي تونس وفي غزة وفي بغداد وفي الخرطوم وفي الصومال. لديهم ماكيتات جاهزة للتطبيق ماكيتات جاهزة لتسعير الحروب. “ماكيت المدينة المنهارة” جاهزة لدى السفاحين والطغاة، و تجار الحروب في جميع الحروب القادمة.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى