التحقيقات

الدولة في لبنان ليست دينية ولكن نظامها عددي طائفي \ أسامة إسماعيل

لو كانت مدنية بشكل كامل لكان الوضع أفضل بكثير
الدولة في لبنان ليست دينية ولا ثيوقراطية ولكنها ذات نظام ديموقراطي عددي مبني على التمثيل المذهبي والطائفي في الإنتخابات النيابية والمناصب الرئاسية والوزارية وموظفي الفئة الأولى، وعلى الأساس المذهبي والطائفي تنشأ أحزاب وجمعيات ومؤسسات ووسائل إعلام ودعاية، وتخضع قوانين الأحوال الشخصية للمذاهب الدينية، أما سائر القوانين مثل قوانين الإدارة والعمل والمصارف والقضاء العدلي فهي قوانين مدنية. وهنالك مبالغة في إعطاء المذهب الديني دوراً أكبر مما هو معطى له في الدستور والقوانين، وفي إعطاء “رجل الدين” هالة ودورا”أكبر مما هو معطى له في الدستور والقوانين، حيث أن الدستور ذاته لم يذكر صفة” رجل الدين “أو” عالم الدين “ولم تذكر نصوصه المذاهب والطوائف الدينية إلا نحو 5 مرات فقط. فهذه المبالغة المعطاة للمذاهب و” رجال الدين “ناتجة من أن آلية الوصول إلى السلطة والمناصب والوظائف مبنية على أساس التمثيل الطائفي والمذهبي حتى أن الدستور لم ينص على أن الرئاسات الثلاث توزع على أساس التمثيل الطائفي والمذهبي، فهذا التوزيع يتم على أساس العرف لا النص وعلى أساس اتفاق ضمني منذ ما يسمى “الميثاق الوطني” في سنة 1943واستمر باتفاق الطائف سنة1989.وهذه الآلية للحكم والسلطة وتداولهما تجعل الأكثرية تعطي المذهب الديني أهمية كبيرة وتعطي” رجل الدين “الهالة والإهتمام المبالغ فيه حتى أنه يفضّل على سائر أصحاب الإختصاصات والمهن والمثقفين المدنيين المستقلين فيظن أن الدولة في لبنان دينية وثيوقراطية.

  • إن الأهمية الكبيرة المعطاة للمذهب الديني ولمن يسمى” رجل الدين” في الواقع اللبناني ونسبة كل شيء في هذا البلد إلى المذهب والطائفة ليست الغاية منها الإيمان الحقيقي وجوهر الدين وتحرير الإنسان من عبادة الأشخاص وتقديسهم والولاء لهم واستقلال الفرد وكرامته والعدالة وترسيخ الأخلاق والذوق السليم بل الغاية منها ترسيخ مذهبية السياسة والإنتخابات النيابية وتولي المناصب والوظائف العامة وطائفيتها. فالنظام السياسي والإجتماعي في لبنان يجعل المذاهب الدينية موضع استغلال السياسيين والأحزاب والطامعين والدول الخارجية الداعمة لهم لأجل السلطة والمناصب والوظائف والنفوذ والحصص ويشجع ابتعاد المذاهب عن جوهر الدين والإيمان الحقيقي العقلاني حيث يغلب عليها دين المظاهر والمناسبات والأحزاب والولاء لأشخاص وتقديسهم، وهذا الأمر يحرف الدين عن هدفه الأساسي وهو الجنة بالمعنيين الدنيوي والأخروي، ما يساعد على انحراف السياسة عن أهدافها الحقيقية وهي التنمية وتحسين الأوضاع العامة و تنظيم الشؤون العامة ويساعد أيضاً السياسة السيئة على تسيير الناس في القطيع الإجتماعي والشعبي وراء أشخاص وأحزاب حيث تذوب قيمة الفرد وخصوصيته، ويوضع العقل والعاطفة والغريزة والمصلحة المادية في السياق الجماعي والشعبي لا السياق الفردي والشخصي، ويصبح مفهوم الجنة مقلوبا”وهو جهنم في نظر النخبوي الحر المستقل. فمن كان مرضىيا” عنه من قبل زعيم الطائفة والناطقين باسمها يستطيع الحصول على منصب أو وظيفة ودخل مرتفع وعلى متع الحياة. ووفق هذا المفهوم، النخبوي الحر المستقل مطرود من هذه الجنة المزيفة لأنه يضع عقله وإرادته ورغباته ومصلحته المادية في النطاق الفردي والشخصي، وبعقله وإرادته يرفض تقديم الولاء للمذهب الذي ولد عليه وللأشخاص والأحزاب الناطقين باسمه. فشروط الدخول في هذه الجنة هو هذا الولاء والإلتزام بحالة القطيع ومعتقداته وعاداته ومناسباته وسلوكه وضجيجه ونشاطه وجموده. وليست شروط الدخول فيها هي الولاء لله وحده وللوطن والذات الفردية، والتحرر والإستقلال والعلم والكفاءة والثقافة النخبوية والكرامة الفردية والأخلاق والذوق السليم. وإن التركيز على الجانب الجماعي والمسيّس للدين أو الجانب المذهبي والطائفية والحزبي لأجل السلطة والسيطرة والنفوذ والحصص والمكاسب ومصالح البعض يجعل الدين في حالته المشوهة والمزيفة والبعيدة عن جوهره عاملاً مساعدا”للسياسيين والأحزاب وأتباعهم والكثير من الناس من ترسيخ حالة القطيع الإجتماعي والشعبي وافتعال الأزمات وممارسة الفساد المالي والإداري والهدر والمضاربة والإثراء غير المشروع والتوظيف والتعيين على أساس”الواسطة “و” المحسوبية “والتبعية، وكذلك ممارسة التسلط والظلم والفوضى والمنافسة غير المشروعة والإزعاج وانتهاك خصوصيات الفرد وحريته وحقوقه. وهل منع التمثيل المذهبي والطائفي في السياسة والمناصب والإنتخابات والإدارة والإقتصاد تهريب ما لايقل عن 10مليارات دولار من لبنان إلى الخارج واستنزاف احتياطات مصرف لبنان وتهريب السلع والأصول الضرورية إلى الخارج والتسبب بأزمة مالية نقدية إقتصادية حيث بلغت نسبة التضخم 1500 %وانكمش الإقتصاد اللبناني 60 %وفقدت الليرة 98 %من قيمتها وأصبحت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي 272 %، وبلغ العجز في الميزان التجاري في نهاية 2022، 31،9 % من الناتج المحلي؟ وهل منع التمثيل المذهبي والطائفي السياسيين والأحزاب والمسؤولين والأثرياء الذين سببوا هذه الأزمة من التسويف والمماطلة في معالجتها بشكل شامل وحاسم وعادل، ومن إلهاء الناس بموضوع انتخاب رئيس الجمهورية وانتظار الدول الخارجية لبت هذا الموضوع وتسييس القضاء المتعلق بملفات الفساد المالي والإداري والجرائم المالية.
    المذهب والطائفة ينسبان إلى الدين وهما ليسا جوهر الدين والإيمان. فالمذهب يقوم على معتقدات وآراء وأحكام وعادات ومناسبات وطقوس ليست كلها منزلة وموحى بها بل هي من وضع سلطات سياسية ودينية و”رجال دين” عبر التاريخ حتى اليوم، وليست كلها تتوافق مع الإيمان الحقيقي والعقل والإرادة والعلم والحرية وقيمة الفرد والعدالة والراحة النفسية، وهي موضع استغلال واستثمار من قبل النظام السياسي والإنتخابي والإجتماعي والسياسيين والأحزاب والمجموعات لأجل السلطة والمناصب والوظائف والنفوذ ومصالحهم واللعبة الدولية الإقليمية، وهي أيضاً عامل مساعد لهم لتصيير الناس قطيعا”وتسييرهم فيه وراءهم، ما يلغي العقل وإلارادة الفرديين شرطي التحرر والإستقلال وحصر العاطفة والغريزة والمصلحة المادية بالنطاق الفردي والشخصي، ويهمش ويظلم المثقف النخبوي الحر المستقل. َوإن التعيينات والتوظيفات والإستثمارات وتوزيع الثروة والدخول على أساس التمثيل المذهبي والطائفي المسيّس والحزبي لا على أساس الكفاءة والجدارة والإستحقاق والحرية والإستقلال تضرب مبدأ المواطنة والعدالة والتوازن بين الأفراد. ولو كانت الدولة في لبنان ذات نظام سياسي واجتماعي مدني وتأخذ من الدين والإيمان جوهرهما وحقيقتهما لا الجانب المذهبي والطائفي والمسيّس للدين لكان الوضع أفضل بكثير ولكن الدول الأجنبية التي ساعدت على نشوء هذا النظام الحالي للدولة والمجتمع، وعلى وضع الدستور، وكذلك السياسيين والأحزاب والسلطات الدينية الطوائفية في لبنان أرادوا ويريدون الوضع الحالي واستمراره لأجل السلطة والنفوذ ومصالحهم ومسرحيات الصراعات والتحالفات وافتعال الأزمات تلو الأزمات وبقاء التخلف.
    أسامة إسماعيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى