المقالات

الأمم المتّحدة: راعية للسّلم أمْ أداة للسّيطرة والتّسلّط؟ كتبت\ ايمان درنيقة الكمالي : المصدر موقع الديار

لا يمكن لكلّ مَنْ في جسده قلب، وفي قلبِه ذرّة من الإنسانيّة، أنْ لا يتعاطفَ ويتأثّر، ويبكي ويتألّم من جرائم القتل، وسفكِ الدّماء،واستباحة الكرامة الإنسانيّة الّتي يتعرّض إليها أهل فلسطين على يد الكيان الصّهيوني الغاصب في قطاع غزّة.

‎استباحةٌ تجاوزت الحدود، وتخطّت المحظورات،وتجاهلت القواعد الدّوليّة، وأمعنَت في ارتكاب أفظع المجازر، مستهدفةً المدنيّين بشكلٍ عام، والأطفال بشكلٍ خاص، ومرتكبةً جرائم الإبادة الجماعيّة والتّطهير العرقي.

‎كلّ ذلك في ظلّ صمت رهيب ومروّع من القوى العظمى، والمنظمّة الأمميّة الأمّ الّتي من المفترض أنْ يكون هدفُها الأساسي الدّفاع عن الأمن والسلم الدّوليين. وهذا ما يدفعنا إلى أن نتساءل: “أين هي منظّمة الأمم المتّحدة من الجرائم الاسرائيليّة الارهابيّة الّتي تحدث اليوم على أرض غزّة؟”

بدايةً، لا شكَّ أنّ الامم المتّحدة الّتي نشأت على أنقاض منظّمة عصبة الأمم، والّتي في الأساس تقوم على فكرة الأمن الجماعي، لم تستطع أنْ تحقّق طموح الإنسانيّة بعد الحرب العالميّة الثانية في أن تؤمّن احلال الأمن والسّلام، وتحقيق رفاهية الشّعوب، وذلك للأسباب عينها الّتي فشلت بسببها عصبة الأمم،والّتي تتمثّل بالسّياسة الاستقوائيّة والاستعماريّة الّتي كانت الدّول المستعمرة تنتهجها،واعتمادها ازدواجية المعايير، فمثلا، عندما شنّت ايطاليا حربا على ليبيا، لم تتحرّك عصبة الأمم لوقف هذه الحرب؛ بينما تدخّلت وأرسلت المساعدات والتّعويضات الماليّة عندما وقع الصّراع بين اليونان وبلغاريا.

‎ورجوعا إلى ما يحدث في قطاع غزّة، نقول إذا كانت الجرائم الّتي ترتكب يوميا في فلسطين قد أعادتنا، في المقلب الأوّل، إلى مشهديّة مصارعة الوحوش البشريّة في العهد الروماني، وذلك لما أظهره العدوّ الصهيوني من همجيّة ووحشيّةً خرج بها عن طبقة الانسانيّة، فهي في المقلب الثاني أثبتت، ولمرة جديدة، فشل الأمم المتحدة في القيام بالمهام الّتي يُفترض أنّها نذرت نفسها لأجلها، وهي المنظّمة التي، وفق خطاب وزير خارجية فرنسا “دومينيك دي فيلبان” في مجلس الأمن عام 2003، تمثّل الشّعوب، وتتكلّم باسمهم، وترعى الأمن والسّلم الدوليين.

ولا غرابة في ذلك، فليست المرة الاولى الّتي تتقاعس فيها الأمم المتّحدة عن أداء دورها الذي أنشئت من أجله، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالتّعاطي مع كل ما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة والصّراع العربي- الاسرائيلي. فبحسب البروفسورعدنان السيد حسين، في كتابه ” فوضى النظام العالمي” ( 2022)، “إنّ أكثر من ثلث القرارات المعطلّة والمشلولة، الصادرة عن الامم المتحدة، تدور حول قضية فلسطين والصراع العربي- الاسرائيلي”.

‎أما عن أسباب فشل هذه المنظّمة، أو إفشالها من قبل القوى العظمى، فنقول أنّ الأمم المتّحدة بقيت سلطةﹰ بيد الدّول، لا سلطة فوق الدّول الّتي لم تقبل أن تتنازل عن سيادتها لسيادة اعلى منها.

‎لقد استغلّت هذه الدّول هيكليّة الأمم المتّحدة وحقّ “الفيتو ” للاستئثار بالقرارات، واجهاض أو تعطيل أي قرار لا يصبّ في مصلحتها. من ناحية، سعى مجلس الأمن لتهميش الجمعية العامة وتجميد قراراتها، واحتكر صلاحيّة حفظ السلم والأمن من دون العودة الى توجّهاتها، وذلك اعتمادا على المادة 24 من ميثاق الأمم المتّحدة. كما عمد إلى تنفيذ القرارات في قضايا السّلم والأمن من دون مراجعة الجمعية العامة، سندا للمادة 25 منه. ومن ناحية ثانية، لم تستطع الجمعية العامّة، في الماضي كما اليوم،كلّما عجز مجلس الأمن عن القيام بما يتوجّب عليه القيام به، أن تقضي إلى”اعتماد قرار الاتحاد من أجل السلام”،

Uniting for Peace Resolution

على الرّغم من طابعه الالزامي، واعتباره نافذﹰا حكماﹰ وصادرﹰا عن مجلس الأمن بموجب الفصل السّابع من الميثاق، كما فعلت ولمرّة واحدة إبّان الأزمة الكورية.

‎وعلى الرّغم من أنّ الجمعية العامة تضمّ 193 دولة متساوية في حقّ التّصويت وابداء الرأي والموقف والقرار،بصرف النّظرعن قوة هذه الدولة وحجمها ومساحتها ومقدار نفوذها في الساحة الدولية؛ إلّا أنّ قراراتها بقيت عصيّة على التّطبيق، وذلك لأنّ الدّول غالبًا ما تضع مصالحها السّياسيّة الخاصّة فوق مصالح العدالة والشّرعيّة الدّوليّة. وقد أدّى هذا إلى تعطيل القرارات الدوليّة في العديد من القضايا، وكانت الحصّة الكبرى للقرارات المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة. والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين، والقرار 194 الذي يعطي الفلسطينيين حقّ العودة الى أرضهم، والتعويض عما لحق بهم من خسائر.

كذلك عندما أصدرت الجمعيّة العامة عام 2003 قرارات أمميّة تطالب بوقف بناء جدار الفصل العنصري التّقسيمي بين أراضي الضّفة الغربية واراضي1948 الفلسطينية، وإدانة الاستخدام المفرط للقوّة من جانب الجيش الاسرائيلي والمستوطنين الصهاينة، ووقف بناء المستوطنات في الأراضي العربيّة المحتلّة، واحترام اتّفاقيّة جنيف المتعلّقة بحماية المدنيّين، فقد ضلّت جميع هذه القرارت طريق التّنفيذ.

‎وعندما غرّمت الجمعية العامة الدولة العبرية مبلغ مليون وسبعمائة ألف دولار أميركي من جرّاء عدوانها في عناقيد الغضب على جنوب لبنان عام 1996، لقصفها معسكر قانا التّابع لقوّات الطّوارئ الدّوليّة، ما أوقع مئة وعشرين ضحيّة من المدنيّين، ظلّ هذا القرارمجرّد توصية.

‎والأفظع عندما وقفت الجمعيّة العامة وقفةﹰ تاريخيّة عام 1975، و قضت بأنّ الصهيونيّة مساوية للعنصريّة، عادت وتخلّت عن هذا الموقف التّاريخي، وتراجعت عام 1991 عن اعتبار الصّهيونيّة حركة عنصريّة. فهل باتت الجمعيّة العامة، في هذه الحالة، مجرّد ديكور؟ أوأنّها لزوم ما لا يلزم؟

كذلك، إنّ “حق النقض” المعطى لأعضاء مجلس الأمن الدائمين هو إعدام لأيّة احتمالية من التخلّص من بطش وإجرام الاحتلال الاسرائيلي، وإجراءاته الاستيطانيّة. وحق “الفيتو ” ليس حقا قانونياﹰ في الاصل وفي الأساس؛ بلْ هو مجرّد جائزة حصلت عليها الدّول المنتصرة في الحرب العالميّة الثّانية، وهو امتياز مستند الى القوّة . فما حصل أنّ كل مشروع قراريتّخذه مجلس الأمن، ويتضمّن إدانة لاسرائيل على جرائمها العدوانيةّ، تسقطه الولايات المتّحدة ب “ضربة الفيتو” القاضية، وقد استخدمت الولايات المتّحدة حق الفيتو في أكثر من 40 مرة لعرقلة قرارات تدين إسرائيل، نذكر منها على سبيل المثال قراري مجلس الأمن 242، و 338؛ اللّذين بقيا حتى اليوم مجرّد حبر على ورق.

‎وكأنّه يحقّ لاسرائيل قتل الأبرياء، وتهجيرهم، وقطع الكهرباء والمياه عنهم وحرمانهم من الطعام والدواء، وهي تستطيع أن ترتكب جرائم حرب، وتستهدف المستشفيات والمدارس، والمدنيّين من دون أن يحاسبها قانونﹲ دولي، أو محكمةﹲﹲ جنائية دوليّة، أو أيّ هيئة قضائيّة أخرى.

‎ولعلّ من أهمّ الأمثلة الصّارخة على “حكم القوي” على المنظّمة الدّوليّة، هو تعاطي الصّهاينة مع الأمناء العامين للأمم المتّحدة، غير المرضي عنهم غربيّا، بدءا من “داغ همرشولد”، ثاني أمين عام للأمم المتّحدة، الّذي قُتل في حادث تحطّم طائرة عام 1961، وحتى “بطرس غالي”، الّذي حُرم من التّجديد له لولاية ثانية، ووصولا الى الامين العام الحالي “أنطونيو غوتيريتش”، الّذي أثارت تصريحاتُه عن غزّة وحماس غضب إسرائيل، التي دعته إلى تقديم استقالته، ومنعته من ادخال مساعدات الاغاثة الانسانية من أدوية وغذاء وماء إلى غزّة، بعد أن وصل إلى معبر رفح.

‎هذه هي “الكولونيالية” الصّهيونية الّتي تفعل فعلها بما يناقض الميثاق الأممي، وتتحكّم بمصائر الشّعوب العربيّة.

إنّنا في محنة حقيقيّة!! لقد سقطت فاعليّة التّنظيم الدّولي، وضاعت الحقوق الدّولية المشروعة، فماذا بقي من الشّرعية الدّوليّة؟

‎وماذا يعني عندما يُترك قرارالّتدخل للقوّة الدّولية الكبرى، بحيث أنّها هي التي تقرّر “كيف” و”متى” تتدخل؟

‎فكيف نعيد للأمم المتّحدة شرعيّتها ولمجلس الأمن دوره في حفظ السّلم والأمن تبعا لمنطق الميثاق الأممي، دون استئثار وتحكّم واحتكار؟هل يكون ذلك عن طريق إجراء التغييرالجذري في هيكليّة الأمم المتّحدة وطريقة عملها،والحدّ من حق النقض(أوإلغائه تماما) للتخلّص من هيمنة وتسلّط الدّول الكبرى؟ أم أنّنا بتنا بحاجة ماسة إلى تكتّل أمني إقليمي دفاعي جديد ؟ وماذا يضمن لنا أنّ الرّعاة الدوليّين الجدد سيكونون أفضل من الرّعاة الحاليّين في تحقيق العدل والسّلام الدّوليين؟

يبقى ملفّ القضيّة الفلسطينية ملفًّا شائكًا يتطلّب تكثيف الجهود الدّولية لحلّه، ويطرح العديد من التساؤلات عن فاعليّة وجود كل ما يسمّى “الاسرة الدولية”، و”المجتمع الدولي”، و”القانون الدولي”.

ويبقى الأمل الكبير أن تتنازلﹶﹶﹶ هذه الدّول عن رفع الشعارات الرنّانة والكاذبة التي تتغنّى بالعدل والسلام الدّوليين، والتي أثبتت أنّها فعليّا لا تساوي “سنتاً واحداً” في “بورصة مصالحها”.

أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى